مجلة طلعنا عالحرية

حفريات حاتم علي البصرية وحدت قلوب السوريين في وطنهم وتغريبتهم

غسان ناصر

صباح يوم الثلاثاء 29 كانون الأول/ ديسمبر الفائت، توفي المخرج السوري حاتم علي (1962 – 2020) في القاهرة إثر نوبة قلبية مفاجئة، ليتوقف قلبه عن الفن والعطاء.
حاتم علي، المخرج التلفزيوني والسينمائي، والمسرحي والممثل، والكاتب القصصي، الشغوف بعمله، صانع “التغريبة الفلسطينية” وثلاثية الأندلس: (“صقر قريش”، و”ربيع قرطبة” و”ملوك الطوائف”)، التي تناولت التاريخ العربي – الإسلامي، والتي كتبها الفلسطيني د. وليد سيف، و”صلاح الدين”، و”عمر”، و”الزير سالم”، و”الملك فاروق”، و”صراع على الرمال”، و”أوركيديا”، و”الفصول الأربعة”، و”على طول الأيام”، و”عصيّ الدمع”، و”أحلام كبيرة”، و”قلم حمرة”، وغيرها من الأعمال التاريخية والمعاصرة، صار مع مرور الزمن المخرج السوري الأهم في الدراما التلفزيونية المحلية والعربية في العقدين الأخيرين، بشهادة كبار المخرجين وكتّاب السيناريو ونجوم الدراما العرب.

رحلة شاقة لمبدع حداثي..
لقد استطاع ابن الجولان السوري المحتل النازح مع عائلته إلى أحد ضواحي مدينة دمشق النائية (الحجر الأسود) أن يصعد سلم الشهرة والمجد في مجاله كممثل ومخرج بالدرجة الأولى، في رحلة شاقة بدأت بدراسة أكاديمية في “المعهد العالي للفنون المسرحية” في دمشق، ثم العمل كمخرج مساعد مع شيخ المخرجين السوريين هيثم حقي، قبل أن يمنحه الأخير كمنتج فرصة إخراج مسلسل “أمينة الصندوق”؛ تجربته الأولى التي نجحت وكشفت عن موهبة مبكرة، كانت بوابته لأعمال تالية حقّقت نجاحات كبيرة في عدد كبير من الأقطار العربية والشاشات الفضائية.
ولمع اسم حاتم علي في الدراما التلفزيونية السورية والعربية، بحسب نقاد، بوصفه مبدعًا حداثيًا اهتم كثيرًا بتحقيق دراما تناولت مضامين تاريخية واجتماعية معاصرة، تقع الصورة وجمالياتها في مركزها، ما كان سببًا لنجاحه في تحقيق معادلة الجماليات الفنية ومتعة المشاهدة على السواء.
ومثل كثير من السوريين حلم حاتم علي بالحرية، حرية الكلمة، وحرية الفن، وخرج مع من خرج من أحرار وحرائر سوريا إلى شوارع الشام في آذار/ مارس 2011، مطالبًا بالإصلاح والتغيير وإنهاء الفساد والاستبداد، لكنه ككثير منا أيضًا أدرك أنّ الطاغية المستبد بشار الأسد لن يرحل كما رحل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وأنّ الجيش؛ جيش النظام الطائفي لن يقف إلى جانب الثوار في شوارع وساحات البلاد كما وقف الجيش التونسي ومن بعده الجيش المصري، فقرّر أن يغادر سوريا وقلبه على من بقيّ فيها، حاملًا لواء الدفاع عن الحقّ السوري حتى وإن لاذ في تغريبته بالصمت أحيانًا، وجاهر في حفرياته البصرية أحيانًا أخرى.
وبسبب مواقفه المؤيدة للثورة، وما قدّمه من أعمال درامية كشفت عن وحشية النظام في تصديه للاحتجاجات الشعبية السلمية، خاصّة عمله “قلم حمرة”، للكاتبة يم مشهدي، كان أن أصدر نقيب الفنانين السوريين زهير رمضان، الذي حول النقابة إلى فرع أمني تابع للمخابرات في نظام الأسد، قرارًا بفصل حاتم علي ونحو 180 فنانًا وفنانة من نقابة الفنانين، تحت ذريعة “عدم تسديدهم للرسوم المالية المترتبة عليهم”!
وفي هذه السنوات العجاف راهن حاتم علي -كما تذكر الكاتبة السورية ميسون شقير- على العمق الفكري لثورة السوريين، فقدّم لنا العمل الوحيد الذي يستحقّ أن نقول عنه إنه وجه الثورة وملامحها، قدّم لنا مسلسل “قلم حمرة”، العمل الذي يستحقّ أن يكون رواية عظيمة، العمل الذي لا ينسى والحوارات التي كانت الصورة الحقيقية عن الزلزال الفكري والشعبي والاجتماعي والسياسي والإنساني الذي عشناه وما زلنا نموت فيه.
وبنقلة نوعية في الدراما السورية استطاع حاتم علي -كما تقول الشاعرة السورية لينة عطفة- “تسليط الضوء على الحياة الحقيقية التي حجبها نظام الأسد. استطاع تسليط الضوء على حقوق المرأة وحالها في المجتمع الذكوري الأبوي، وعلى القضاء، والفساد وقمع الحريات، والحرمان الذي يعيشه الإنسان السوري، في أعمال متنوعة لامعة مثل “عصي الدمع”، “أحلام كبيرة”، “على طول الأيام”، وغيرها الكثير. تمكّن من كل ذلك محايلًا نظام القمع مجاهدًا في سبيل إخلاصه لمهنته ومشروعه”.
ويرى الكاتب السوري محمد سامي الكيال، أنّ حاتم علي “نال جانبًا كبيرًا من شهرته العربية، مثل عدد آخر من المخرجين السوريين، بوصفه مخرجًا بارعًا للأعمال التاريخية، إلا أنه حقّق، إضافة لهذا، إنجازًا صعبًا في الشرط السوري، وهو تقديم أعمال اجتماعية معاصرة. والصعوبة تكمن في كيفية صياغة دراما عن الحياة اليومية، في بلد تم إغلاق حيّزه العام بشكل كامل، ولا يمكن فيه طرح أي قضية شائكة بحرية. الحل السائد، آنذاك، كان الأعمال الاجتماعية الكوميدية الخفيفة، التي تناقش بعض القضايا الأسرية والمعيشية، للفئة الوسطى المدينية، بشكل “نقدي” وقد برع علي في هذا النوع من الأعمال؛ فقدم مع الفنان ياسر العظمة، نسخة عام 1998 من مسلسل “مرايا” الذي يعبّر، بشكل كاريكاتيري، عن نظرة بقايا البورجوازية الدمشقية لنفسها، ولبقية فئات المجتمع السوري، كما أخرج مسلسل “الفصول الأربعة”، الذي يقدم عائلة، تتحدّث اللهجة السورية “البيضاء” تعيش في مكان ما وسط العاصمة دمشق، ويسود بينها، رغم كل المشاكل، نوع من التضامن والمحبة. إنها (العائلة السورية) كما تحب أن ترى نفسها، والتي يتمنى أن يؤسّس مثلها، أو يعيش فيها، كل من ينشد الترقي الاجتماعي والطبقي. وربما كان الحنين المعاصر لهذه العائلة توقًا لمثال أكثر مما هو تذكر لشرط اجتماعي واقعي، عاشته فئة سورية، كان لديها بعض الملكية المالية والعقارية والأمن الاجتماعي”.

سرّ حلم حاتم علي الذي لم يتحقّق..
من يعرف حاتم علي عن قرب يعرف أنه استمد قوة حضوره الهادئ الجميل من منجزه البصري الحداثي، ولنا في شهادة الكاتبة والإعلامية بروين حبيب، المثال الأنصع على قولنا هذا. تقول حبيب: “تعرّفت على حاتم علي أيام سرق المشهد الدرامي السوري قلوبنا بروعته، وسحرنا بجمالياته، وكنا على مدى عقود من الزمن مُحتَكَرين كمشاهدين بالدراما المصرية. شيء مختلف تمامًا قدمته الدراما السورية منذ بدايتها، كان أقوى من كل الأعمال التي عوّدنا عليها التلفزيون، كونه كان حقيقيًا، حدّ إدهاشنا مثل المرآة التي عكست دواخلنا بكل تفصيلاتها”.
ويرسم لنا شريكه في مسيرة النجاح والتألق الممثل القدير جمال سليمان، صورة قلمية لحاتم المخرج القلق المتفاني في عمله، يقول سليمان في رثاء الإنسان المثقف الذي ترك لنا تراثًا فنيًا استثنائيًا، يقول: “لطالما عاتبتك عن عدم رضاك عما تقدمه.. بعد كل نجاح كبير كنت تصنعه بتفانيك ودأبك وإخلاصك واهتمامك بأدقّ التفاصيل كنت أحزن لأنك لا تعيش فرحة النجاح كما يحقُّ لك أن تعيشها. وكنت تقول لي: “كان من الممكن أن نفعلها بشكل أفضل”.. كنت تتحدّث عن عيوب لم ينتبه لها أحد، وكنت أستاء وأقول لك: يا رجل الكمال لله، دعك من تلك التفاصيل واحتفل بالنجاح فأنت تستحقُّ ذلك، ولكنك كنت ناقدًا قاسيًا على نفسك. كنت تحب الناس وتؤمن بوعيهم وذكائهم وكنت تؤمن بأنهم يستحقّون أن يعرفوا الحقيقة، وبأنك لم تفعل ما يكفي من أجل ذلك”.
وعن حفريات المخرج الراحل البصرية في معالجاته للأعمال التاريخية، بصياغة بصرية متطوّرة تستخدم آخر التقنيات في عالم صناعة الدراما التلفزيونية، يرى الناقد السينمائي والروائي الفلسطيني سليم البيك، أنّ “حاتم علي يميل إلى الملاحم، وإلى التاريخ، إلى النصوص الممكن -مع مخرجين مثله- تحويلها إلى مراجع فنية للمشاهدين، فما لا يصل من خلال الكتاب إلى جماهير تشاهد ولا تقرأ، أو تشاهد أكثر مما تقرأ، يصل بالمسلسلات، وهذا ما فعله في مسلسلات تعاونَ فيها مع كتّاب بارزين ومختصّين ـ بشكل ما ـ في التاريخ، كممدوح عدوان ووليد سيف (وإبراهيم نصرالله في مشروع لم يكتمل هو “زمن الخيول البيضاء”).
وفي مقالة للروائي الفلسطيني إبراهيم نصرالله، نشرت في صحيفة “القدس العربي” في السادس من الشهر الجاري، يحدّثنا فيها عن حلمه المشترك مع حاتم علي، والذي لم يتحقّق لأسباب إنتاجية. يقول نصرالله: “في صيف 2008 اجتمعنا في عمان. كان حلم تقديم رواية “زمن الخيول البيضاء” في مسلسل تلفزيوني، قد أصبح حقيقة؛ حاتم علي الذي قرأ الرواية، جاء إلى عمّان متحمّسًا، حتى أنه رفض الحديث في أي موضوع ماليّ: “ما دام المسلسل عن فلسطين، سنبدأ العمل، وبعدها نتحدّث في التفاصيل المالية”. هذا ما قاله لأخي طارق زعيتر، منتج العمل.. كان أكثر ما يشغلني هو المكان الذي سيجري فيه تصوير الأحداث؛ كنت أميل إلى وجود مكان جميل يمثل قرية “الهادية” وكان حاتم علي يجول في الأماكن بخياله، ويقول لي: “أظننا سنجده في ريف طرطوس، هناك سنجد مكانًا معبّرًا عن “الهادية””. كان المخطط أن يكون العرض الأول للمسلسل في رمضان 2009 مسلسل ينتمي لفئة المسلسلات ذات الإنتاج الضخم، لكنّ مسألة وجود الخيول التي ستلعب أدوارًا حقيقية في المسلسل كشخصيات، وأهمّها “الحمامة” و”الأدهم” كانت تحدّيًا. لم يطل الوقت قبل الوصول إلى قرار الاستعانة بمدرب خيول إسباني يأتي إلى عمّان، ليبدأ باختيار الخيول المناسبة وتدريبها، في الوقت الذي يكون العمل على السيناريو مستمرًّا، في انتظار بدء التصوير في كانون الأول/ ديسمبر 2008”. يضيف الروائي الفلسطيني: “كانت شركة زعيتر قد حددت ميزانية كبيرة لكي يتحقّق حلم إنتاج الرواية، ولذا راح أخي محمد زعيتر، المدير التنفيذي للشركة، يتنقّل بين العواصم على أمل عقد اتفاقيات مع الفضائيات التي ستقدم العرض الأول”.
“أعددتُ ملخّصاً للأحداث، وقائمة بالشخصيات وحجم ظهورها، والأماكن التي سيتم فيها التصوير، وكتبَ حاتم علي رؤيته للعمل في صفحة واحدة وجدتها لديّ، ليتم عرضها مع الملخص على المسؤولين في الفضائيات العربية. كان الهدف أيضًا من هذا أن تقوم إحدى الفضائيات الكبيرة بالمشاركة في الإنتاج، وبذلك يكون لها حقّ احتكار العرض الأول”.
يتابع نصرالله: “لكن حلمنا بدأ يصطدم بواقع مختلف، لم نتخيّله، ويمكنني القول الآن إنه كان البذرة السيئة العميقة لنبتة التطبيع الأسوأ التي نراها اليوم. فقد بدأ التملّص من إعطاء وعد بالمشاركة في الإنتاج، أو حتى تقديم العرض الأول، حين استعدَّ المنتج لدفع كامل تكاليف العمل. وبعد التملّص اقترحتْ إحدى الفضائيات الشهيرة السماح لها بتحويل القسم الأول من الرواية إلى مسلسل بدويّ! واشترطتْ أخرى، لا تقل عنها شهرة، تغيير المكان، أي أن لا يكون فلسطين، وسيشاركون في الإنتاج فورًا! في تلك الأيام، أدركنا للمرة الأولى أن فلسطين غير مُرَّحبٍ بها في الفضائيات العربية”.
بغياب حاتم علي فقدت الساحة الفنية السورية والعربية، فنانًا ذكيًا ومجتهد، ومخرجًا فذًا مختلفاً عن السائد، وإنسانًا نبيلًا ترك بصمة لن يمحوها الزمن بعدما استطاع الحفاظ على خياراته الاستثنائية، التي لا تشبه الخيارات التجارية التي ذهب إليها مخرجون كثيرون عندما باتت أسماؤهم مشهورة. ولعل ما أثارته وفاته المفاجئة مشاعر الفقد بين السوريين في وطنهم المختطف وفي تغريبتهم، ورثاء بلد وزمن ضائعين، يتفق مع ثيمة عمل عليها كثيرًا في مسلسلاته التاريخية، وهي الأرض المفقودة؛ سواء كانت الأندلس، الفردوس الضائع في الأيديولوجيا القومية العربية المعاصرة، أو فلسطين ما قبل النكبة…

Exit mobile version