غسان ناصر
قبل أيام من رحيله المبكر، الموجع، أعلن الكاتب والباحث الأكاديمي والمثقف الموسوعي السوري الدكتور حسّان عبّاس، في منشور له على جدار صفحته في موقع “فيسبوك”، أنّ كتابه الأخير الموسوم بـ “الجسد في رواية الحرب السورية”، صدر عن “المعهد الفرنسي للشرق الأدنى” IFPO في بيروت، وفيه يدرس -كما ذكر في منشوره- “كيف يتمثّل الجسد في خمس عشرة رواية سورية صدرت في السنوات الماضية”.
حسّان عبّاس، المناضل الصلب من أجل قضايا المجتمع المدني السوري، الذي غادرنا قبيل السنويّة العاشرة للثورة السورية، في السابع من شهر آذار/ مارس الماضي، حظي في الأسابيع الأخيرة من حياته بتكريم نخبة من رفاق دربه وأصدقائه وتلامذته من مفكرين وكتّاب وشعراء بإصدار كتاب احتفائي بسيرته ومسيرته، حمل عنوان “حسّان عبّاس بعيون معاصرة”، أشرف على تحريره وقدّم له المعارض البارز فايز سارة، وصدر عن منصّة “شركاء” الإلكترونية.
الجسد السوري في روايات بنت حكاياتها..
في مقدمة كتابه “الجسد في رواية الحرب السورية” حدد د. عبّاس مجموعة تعريفات لمفردات دراسته، مستعرضًا أسباب اختيار الروايات المدروسة (عينة البحث التطبيقية)، وأسئلة البحث وأهميته، إضافة إلى اختياره (المنهج السوسيونقدي) ليكون تأسيسيًا في تحديد مسارات البحث التحليلية بأسلوبيّات شعريّة.
في استهلال دراسته يؤكد المؤلّف أنه “لا أدب بدون جسد، بدون أجساد، ما دام الأدب يحكي، يروي، حكاياتٍ تحتاج إلى فاعلين لا يمكنهم إلّا أن يتمثّلوا بوجود مادّي”.
وفي تعريفه لـ “رواية الحرب”، يلفت صاحب “الموسيقى التقليدية في سوريا”، أنه لا يقصد رواية محددة، إنما هي “الرواية السورية التي بنت حكاياتها على أرضية الحرب في سوريا، والتي لا يمكن فهم وقائعها ودقائقها وطبائع شخصياتها إلّا بدلالة هذه الحرب”، مع بيانه صعوبة توسيمه “الحرب السورية”، ورفضه لما أُطلق عليها دعائيًا وبحثيًا كـ”الحرب الطائفية” أو “الحرب المذهبية”، بل يراها حربًا بدأها نظام ضدّ شعبه، ما لبثت أن تحوّلت إلى “مشهدية حربية عبثية شديدة المأساوية، لتعدد المشاركين فيها من جيوش مختلفة ومرتزقة وجماعات جهادية..”.
الروايات الخمس عشرة المختارة للدراسة والتحليل، كُتبت في سنوات الجمر السورية الدامية؛ سنوات حرب الطاغية على الثائرين السوريين ضدّ حكمه الشمولي الاستبدادي الطائفي، وهذه الروايات هي: (“الذئاب لا تنسى” للينا هويان الحسن، “المشّاءة” لسمر يزبك، “بانسيون مريم” لنبيل الملحم، “السوريون الأعداء” لفواز حداد، “أيام في بابا عمرو” و”عائد إلى حلب” لعبد الله مكسور، “الموت عمل شاق” لخالد خليفة، “الخائفون” لديمة ونّوس، “الذين مسّهم السحر” لروزا ياسين حسن، “نزوح مريم” لمحمود حسن الجاسم، “موسم سقوط الفراشات” لعتاب شبيب، “مفقود” لحيدر حيدر، “جهنم صغيرة لهذه الجنة” لعادل محمود، “بائع الهوا” لجميل نهرا، و”طابقان في عدرا العمالية” لصفوان إبراهيم).
وفي هذا السياق يوضح د. عبّاس أنّ خياره لهذه الروايات انتقائي لا يخلو من “القصديّة الإرادويّة” وفق تعبيره، وأنه تمّ لعدة أسباب هي: (-1اعتماد البحث المتن النموذجي وليس البانورامي.
-2 مرحلية البحث لعدم اكتمال المشهد النهائي للرواية كون أحداث الحرب لم تنته. 3- شمولية الاختيار عبر تجنّب التأثيرات العاطفية أو النقدية أو السياسية أو الدعائية).
يُقسم د. عبّاس دراسته لتمثّلات الجسد أدبيًا إلى خصائص مادّية متعلقة بالمظهر العام الممنوح للشخصيات، وخصائص لامادّية متعلقة بالبنية الداخلية للشخصيات. مستخلصًا في محور حمل عنوان “البدانة والنحول”، أنّ الكثير من الروايات تُطبّق نوعًا من التصنيف الذي يربط بين حجم جسد الشخصية وسلوكياتها.
ويركّز الباحث الأكاديمي في بحثه هذا على دراسة الوجوه كعنصر رئيس في تمثّل الجسد في الروايات السورية، وذلك من خلال التركيز على عنصرين اثنين من عناصر الوجه هما: العيون واللّحى، التي تظهر تارة في إشارة إلى الإسلاميين و”أسلَمَة المعارضة” في روايات معينة، وتارة أخرى ترمز إلى شبيحة النظام.
إنّ آخر مؤلّفات الباحث الأكاديمي السوري الراحل، بحاجة إلى أكثر من وقفة ومراجعات نقدية ستتيحها لنا مساحات أرحب، وهو كتاب جدير بالقراءة والاهتمام لمن يريد فهم خارطة الإبداع الروائي السوري في سنوات ثورة الحرية والكرامة.
حارس المواطنة في “مملكة الصمت الأسدية”..
حسّان عبّاس (1955 – 2021)، الرئيس المؤسّس لـ (الرابطة السورية للمواطنة)، ومؤسّس دار نشر “بيت المواطن” ومديرها، الحائز على وسام “السعفة الأكاديمية برتبة فارس” من فرنسا عام 2001. استحق بجدارة فرسان الكلمة والمواقف الوطنية النبيلة، كتاب “حسّان عبّاس بعيون معاصرة”، الذي جاء في (165 صفحة من القطع المتوسط)، والذي احتوى بين دفتيه على مقالات وشهادات لعدد من أبرز كتّاب وشعراء سوريا في العقود الأخيرة، ممن عرفوا الدكتور عبّاس أو تعرفوا على منجزه الإبداعي عبر منصّات النشر والإعلام الإلكتروني والصحافة.
كما ضمّ الكتاب مجموعة من المقالات المختارة لصاحب “سوريا، رؤية من السماء”، تناولت أوضاع سوريا والسوريين في سنوات الثورة، مع ملحق لنشاطاته ومسارات حياته الزاخرة بالعطاء.
الكتاب التكريمي، أهداه محرّره الأستاذ فايز سارة “إلى سوريات وسوريين قدموا الكثير من أجل مواطنيهم وبلدهم؛ إلى حسّان عبّاس واحدًا من هؤلاء، ما قمنا به اعتراف وتقدير لبعض ما قمت به”.
من المشاركين في الكتاب، في فصله الأول، إلى جانب سارة، المفكر ميشيل كيلو الذي غادرنا في 19 نيسان/ أبريل الماضي. إضافة إلى الشاعرين فرج بيرقدار، وإبراهيم اليوسف. والكتّاب؛ وائل السوّاح، وعلي الكردي، وبدر الدين عرودكي وآخرين.
نقرأ في الفصل الثاني مجموعة من المقالات بقلم د. عبّاس، منها: (“جدران الوهم”، “حرّاس الذاكرة”، “صناعة التفاؤل”، “المواطنة أمام امتحان الوباء”، و”سوريا لا أمّ لها”). فيما جاء الفصل الثالث بعنوان “مسارات حسّان عبّاس في دروب الحياة”. يليه فصل خاص بـ “روابط من نشاطات حسّان عبّاس ومقابلات معه وكتاباته”. إضافة إلى الهوامش والتعليقات.
من بين مساهمات الكتّاب السوريين التي حاولت إنصاف الرجل في حياته، نتوقف عند مساهمة الكاتب والمعتقل السياسي السابق وائل السوّاح، وعنوانها “حسّان عبّاس وربيع دمشق.. القوّة الناعمة”، تحدث فيها عن دور صاحب “دليل المواطنة”، في بناء مجتمع مدني سوري في “مملكة الصمت الأسدية”، كتب السوّاح: “في مطلع التسعينات، عاد إلى سوريا من باريس رجل في الثلاثينات، بشاربين أسودين كثّين، وشعر خفيف على الرأس ونظارتين مستديرتين، بعد إحدى عشرة سنة هناك، وعاد يحمل شهادة دكتوراه في النقد الأدبي. لكن ما ميّزه، إنما حمله لرسالة التنوير الفرنسية بعقلانيتها وبعدها الإنساني ممزوجة بالمبادئ العليا للإنسانية والعدالة الاجتماعية. وبدا حسّان للنظام عدوًا مبينًا. كان حافظ الأسد قد خرج للتوّ من عزلة مقيتة، امتدت سنوات، وشارك في مؤتمر مدريد، وأفرج عن بعض المعتقلين الذين أمضوا سنوات طويلة في سجونه، ولكنه لم يكن مهيأ لقبول أفكار المواطنة والحريات. ولذلك فشل حسّان في العثور على وظيفة أستاذ في جامعة دمشق، بقرار من وزير التعليم العالي وقتها هاني مرتضى، الذي كان يحابي قرارًا أمنيًا وحزبيًا بعدم السماح لحسّان بالتدريس في الجامعة، ولعلّ في الرفض خيرًا. فقد عمل حسّان في المعهد الفرنسي للدراسات العربية، وأدار منه حراكا ثقافيًا متميّزًا في مرحلة التسعينات وما تلاها، تمركز في دمشق، وامتد إلى أنحاء سورية أخرى”.
فيما كتب الشاعر والمعتقل السياسي السابق فرج بيرقدار، المقيم في السويد، شهادة بعنوان “بشارة الحرية”، جاء فيها: “حسّان عبّاس أحد الرموز الذين عبروا كل ما أحاط بالسوريين من حواجز ومراصد وأجهزة رقابة وقمع ومصادرة، إلى أن احتلّ مكانه وصار واقعًا يصعب إلغاؤه كما يصعب تجاهله، وأيضًا يصعب وضعه عند حدوده، التي تحاول السلطات فرضها كلما وأينما استطاعت”. وأردف: “كان حسّان، وما زال يشتغل على التأسيس وعلى الأسس بالمعنى المعرفي الثقافي والحقوقي والنقدي والمسرحي والغنائي والتراثي”.
أما الكاتب والمترجم بدر الدين عرودكي، المقيم في باريس، فجاءت مساهمته تحت عنوان “سورية حسّان عبّاس الموسيقية”، واستهلها بالقول: “لكي يقول سورية التاريخية وسورية اليوم معًا، اختار حسّان عبّاس، أن يضع كتابًا حول موضوع يقولها بمنتهى البلاغة: “الموسيقى التقليدية في سوريا”، وهو ما صار عنوان ومضمون كتابه الذي صدر عن منظمة اليونسكو قبل ما يقارب السنتين، في إطار مشروعها الذي يستهدف “الصون العاجل للتراث الثقافي السوري” تحت وطأة المأساة الكبرى التي تعيشها سورية والسوريون، والتي تعصف ببلادهم وبتراثهم المادي واللامادي. وهو موضوع استثنائي، عابر للأزمنة، وللأمكنة، وللأنظمة السياسية، وللأيديولوجيات، بما أنه التعبير الأسمى عن أعمق المشاعر الإنسانية روحًا ومادة. موضوع تفاعلي أيًا كانت طبيعته، وعفوي لا يحتاج إلى اعتراف منظومة أو مؤسسة بما أنه يمس شغاف القلوب، البصيرة منها بوجه خاص: ذلك أنه، يؤثِّرُ ويتأثر، يُغْني ويَغْتَني، وينتهي إلى أن يجمع، ولا يفرِّق”.
جدير بالذكر أنّ الدكتور حسّان عبّاس ولد في 15 نيسان/ أبريل عام 1955، في مدينة مصياف بريف حماة الغربي، وحصل على شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي من جامعة السوربون الجديدة في فرنسا، عام 1992. ومنذ منتصف تسعينات القرن العشرين ساهم في تأسيس وإدارة عدد من الجمعيات المدنية العاملة في مجالات الثقافة والمواطنة وحقوق الإنسان، فضلًا عن نشاطه الاستثنائي خلال حقبة “ربيع دمشق” التي أعقبت موت الأسد الأب. وكان من أوائل الثائرين ضد نظام بشار الأسد بمجرد الإعلان عن وصول رياح الربيع العربي إلى سوريا. تجلّى ذلك عبر إنجازه الأهم وهو “الرابطة السورية للمواطنة” التي أسسها وأدارها حتى آخر أيامه.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج