مقالات رأي

حدث في مدينة الضباب

imageszywj

كنت في العشرينات من عمري أتابع دراستي في جامعات لندن حين عملت في فندقٍ صغيرٍ متواضعٍ لمدة عامٍ ونصف.
هناك التقيت بـ “سعد العراقي” الخمسيني الذي أتى من دمشق بعد أن أقام فيها لسنوات عديدة عقب فراره من قمع نظام المخلوع صدام حسين. كان سعد شيوعياً, وكان يقول بأنه كاتبٌ مسرحيٌ قد غدر به الزمان, وادعى لي مراراً أنه كان يكتب أعمالا لإذاعة دمشق وأن أحمد مطر صديقه المقرب. كان سعد كثير الشراب وكثير الكلام والأحلام, لكنه كان قليل الفعل. كانت ملابسه الرثة وملامح وجهه الأسمر تشي بإخفاقاته العديدة التي مني بها عبر السنوات العشر التي قضاها في عاصمة الضباب، وقبل ذلك في جمهوريات الخوف. كان ناقداً مواظباً للأديان والفكر الديني والاسلام السياسي بأشكاله, وكان يقول بأن الدين أفيون الشعوب, وأنه سببُ تخلفنا, لكنه كان يقر مثلا بأن العصر العباسي كان عصر انفتاحٍ فكريٍ عظيمٍ، ويستشهد بالتيارات الفكرية الكثيرة التي ازدهرت فيه.
كان سعد محبطاً ككثيرون من حوله, وكان إخفاقه في العثور على امرأةٍ تشاركه متعات الحياة يعيق تقبله للأخرين الأكثر حظا في هذا المضمار. كان يتحدث باستفاضة عن سعة اطلاعه والكتب التي قرأها ومكتبته العظيمة التي خلفها وراءه في مدينته العمارة جنوب بصرة العراق, وكان يتفاخر بأنه كان يرتاد قهوة الهافانا في دمشق مع الكتاب والمفكرين والمثقفين, وأنه جالس الجواهري (شاعر السلاطين) وسعد الله ونوس وعبد الرحمن المنيف.
ذات يوم صيفي جميل, كنت أقوم بنوبتي المسائية المعتاده بعد نهار حافل في الجامعة. دخلت فتاة أسترالية إسمها كيم, كانت تقيم في الفندق منذ بضعة أسابيع لتستكمل بحثها عن عمل في العاصمة التي تستقبل الأستراليين برحابة صدر كبيرة, وجلست بجانب مكتبي البسيط تحدثني عن يومها الطويل ومستجدات عمليات البحث عن العمل, وهو طقس اعتدت عليه بحكم عملي المسائي وتقارب السن والهموم بيني وبين مرتادي الفندق من الشباب والشابات الذي أصبح بعضهم أصدقاء لي. بعد برهةٍ دخل علينا سعد, كان ثملاً على نحوٍ واضحٍ، توقف لبرهة قبل أن ينعتني بالناصبي القذر الذي يريد الاستحواذ على نساء الأرض جميعا, كأجدادي بني أمية, الذين قتلو جده الحسين..! أتاني هذا الهجوم كالصاعقة التي أودت بصوابي للحظات قليلة ما لبثت أن استفقت منها. لم أعرف ماذا أفعل. كان ثملاً لدرجةٍ يصعب فيها على أحدٍ لمسه أو مساعدته ليجد طريقه إلى غرفته البائسة كحياته, لكنني رغم ذلك حاولت. فانفجر في وجهي سباباً وشتماً ووعظاً في التاريخ الإسلامي الذي ظلمه وأنصفني على حسابه. لم يكن من المجدي أن أذكره بأن هذا الكلام لا يفيد في شيء, وأنه ينكر الأديان جميعا وكل مايتعلق بها, وأنه شيوعي منفتح الذهن عاشر المفكرين والأدباء والفنانين, وأنه يعيش في عاصمة الديمقراطية, وأن كلامه ليس سوى ترديداً ببغائياً لأسطوانات مشروخة لا يفيد سماعها في شيء, وأن الماضي لأهله والحاضر لأهله, وأنه لا تزر وازرة ورز أخرى, وأن وصولي إلى الجامعة أو إتقاني للغة الإنكليزية لم يكن سوى نتيجة لاجتهاد شخصي وحسب, وأنه لا يتصل بأي شكل بما فعله يزيد قبل قرون طويلة، وأن فشله في تحقيق ذاته لم يكن سوى ثمرة تعثره الشخصي وعدم قدرته على استثمار الفرص التي مرت به، ولا يتصل بقتل الحسين وسبي زينب لا من بعيد ولا من قريب. لم أكن قد سمعت بكلمة ناصبي من قبل, وكان علي الاستعانة بصديق عراقي آخر لشرحها لي.
أخذ الشراب بعقل سعد الذي كان يمكنه من تقمص دور العلماني المتفتح الذهن, وفسح المجال لعقله الباطن بالنطق بما زُرع في داخله عبر سنوات طويلة عاشها في وسطٍ ما غذى فيه كره الآخرين وتحمليهم مسؤولية فشله.
عندما أتى مدير الفندق العراقي الآخر بعد قليل, أخبرته بما حدث. ثار غضباً, وهو من يحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء من أعظم الجامعات في العالم, وقال لي “هذول الرافضة الكلاب ما يستاهلون واحد يعطف عليهم, رح أرميه برا بالشارع مثل الكلب”, وهكذا فعل. هذا هو التفسير الذي تمخضت عنه عبقرية العالِم لشرح تصرف إنسان مهزوم كسعد. لم أحزن لمصير سعد أبداً ولم أره بعدها قط.
تأكد لي لحظتها أن ما يزرع فينا منذ الصغر لا يمكن التخلص منه بسهولة, وأننا جميعاً على اختلاف انتماءاتنا الدينية والمذهبية والثقافية مصابون بمرض يجعلنا نعتقد أننا على صواب وأن الآخرين جميعا مصيرهم جهنم وساءت مصيرا, وأن الانتصار على هذه العلل الثقافية والاجتماعية يتطلب الكثير من العمل, وأن التصورات الخرافية التي تعيش في داخلنا لا تلبث في ساعات الغضب أو فقدان القدرة على التمثيل والتصنع أن تطفو على السطح لتظهر الظلام الذي يعشش فينا. تبين لي ايضا أن التحول الاجتماعي والفكري على الصعيد الفردي يحتاج إلى الكثير من الجهد الشخصي والعمل المضني والقدرة على التغير من الداخل لتحقيق الانتصار الحقيقي على الذات, وأن التحول الفكري الجماعي لا يتم بين عشية وضحاها أبداً, وأن بيينا وبين التمدن والتغلب على عقلية القبيلة وفسلفة تبرير التناحر وعقلية التظالم عشرات الثورات.
انقضت سنوات طويلة على قصة سعد, لكنها لاتزال عالقة في ذاكرتي, ولازلت أتعلم منها الكثير كل يوم.

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top