مجلة طلعنا عالحرية

حادث غير مقصود / سرى علوش

وماذا تعرف عن خيبة عاشقة جاءتك خلسة عن الحرب والخوف مختبئة في ثياب العيد فَردَّها قلبك مكسورة الخاطر؟ وماذا تعرف عن وجع الوقت؟ عن استهلاكه دون حذر في حزن مكرر انتظارًا للذي لا يأتي؟ وماذا تعرف عن الحسرة التي يتركها الطريق فينا حين ولأول مرة نمشيه دون أن  نفكر بالنظر خلفنا؟ وماذا تعرف عن قلب تسكنه الريح وتلعب فيه كطفلة يتيمة لا أهل لها؟ وماذا تعرف عن لعبة الموت والحياة التي ألعبها مع المسافات والحدود كي أعبرها كل مرة دون أن تأخذ قطعة من قلبي الذي أُحبك به فتتركه ناقصًا ووحيدًا؟ وماذا تعرف عن الوطن الآخر الذي لم يأكله الطغاة ولم تحاصره الدبابات، لكنه مات في حادث مروري غير مقصود؟

أنت لا تعرف شيئًا عن حطب أيامي الذي أحرقتُه أمامك حين كنتَ مريضًا بي؛ فالحمى التي أصابتك تسببت في رفع حراراتك حتى لم تنتبه وقتها لكل ما حدث، ولأنني كنتُ أكثر حرصًا على حياتك من حبك لي جعلتُك تتعافى ونسيتُ أن أحمي جسدي من العدوى، وما إن تماثلتَ للشفاء حتى وقعتُ أنا طريحة الألم وضحية عدم الانتباه. لكنك بدلاً من أن تحضر لي بعض الثلج دربتَ وَردك على الطيران ودمعك على الجفاف، وأضأت بي غرف المنزل المعتم كي لا تتعثر فيقع قلبك دون أن تنتبه، وحين نفذ زيتي كنت تعلمت الرحيل جيدًا.

لن أفرش طريقك نحوي بالورد بعد الآن..

خطاك التي دربتَها على الهذيان في الشوارع العامة ماعدتُ أميزها، اختلطت علي آثارها مع خطوط الخراب في كل مكان. لن أنادي عليك حتى لمرة أخيرة، ولن أتذرع أن الجنية صرخت في فمي فأصابني الخرس، كما لن أصدق أن الوقت لم يكن في صالحك؛ وحده الحب لم يكن في صالحك! وحده قلبك الذي جرني آلاف المرات من ذيل فستاني ليتفرج على ألمي ويضحك له؛ كان قادرًا على اللعب في إبرة البوصلة كيفما يشاء، فدفع حزني إلى الجدار وأدار ابتسامته العارية للنافذة!

لن أبكي عليك بعد الآن، ولن أكسر الشمس على بلاط الغرفة كي أدفئ قدميك كلما تعبتَ من الغربة وفتحت حقائب نسيان الوطن كي تخلع ثيابك وترتديني. لن أنظف عتبة البيت بأغنية أو رقصة نهارية، ولن أترك الباب مفتوحًا لقصائدك التي لم تكتبها بعد؛ كل مافي الأمر أنني سأترك قلبي مفتوحًا لتخرج منه ببطءٍ شديد، فلا يتفقد قفله بعد الآن، ولا يعُدّ المرات التي طرقتَه فيها بعد أن أضعتَ المفتاح..

المعطف الذي علقتَه بالأمس وراء الباب؛ لا يصلح مدفأة للشتاء القادم! أنا البعيدة عن العين؛ المبعدة عن القلب، أفكر الآن كيف أقتصّ لقلبي المهمل من يديك الباردتين، وكيف أحتفظ بالزكام الذي يأكلني كي أصيبك يومًا ما بالعدوى، ثم أتعافى وحدي. أنا الفكرة التي لا تقال؛ امتهنتُ المرض بك حتى خسرتُ أسناني واحدًا تلو الآخر وأصبحتُ أمتصّ الحروف ولا ألفظها. لغتك المحدودة القليلة الألم والعابرة للمعنى كانت سببًا في امتناعي عن مغادرة السرير. وحدها العتمة فسرت لي كلماتك وأقنعتني بجدوى الرضا. رضيتُ بنعمة العمى كي لا أرى أخطاءك وخياناتك، وصمَمْتُ روحي عن أخبارك الكثيرة التي جعلتني أزور الجحيم مئات المرات في الليلة الواحدة. أمضيتُ الأيام الأخيرة من حياتي أطلب الغفران من الله ولا أحصل عليه. أنا اللبوة التي قتلت نفسها لكي لا يأكل رجل مثلك قلبها!

لو أن امرأة غيري ربطتْ حزنها بك لشدّتْكَ معها إلى قاع البئر، لكن الفكرة ليست في موتك، ولا في حياتك! تكون الخيانة أحيانًا ثمنًا بخسًا للهجر والتخلي، ويصبح الانتقام تعويضًا غير شريف لقلب امرأة أحبت بشرف، فيصبح الحب عندئذ عبئًا يسهل التخلص منه ببعض الأدوية المضادة للذاكرة! وأنا لست تلك الامرأة؛ ولذلك أبقيتُك واقفًا على قدميك، تُثقل التفاصيل كتفيك وتنهش قلبك، وتحملني على ظهرك أبدًا.

لو كنتَ عاشقًا لقتلتك! نعم لقتلتك، لكن الذين لا يعرفون كيف يحبون لا يمكن لهم أبدًا أن يعرفوا كيف يموتون من أجل فكرة مخلفين وراءهم تاريخًا وحضارات لا تفنى من الذكريات والكلمات.

Exit mobile version