بقلم د. هيثم الحموي
يروى أن سيدة في قرية كانت ماهرة في صناعة طبق من أطباق السمك، وعندما كانت تشرح طريقة إعداد الطبق لإحدى جاراتها، قالت إنها تقطع رأس السمكة وذيلها قبل وضعها في مقلاة الزيت. سألتها جارتها عن السبب، فقالت السيدة إنها لا تعلم السبب لكنها تعلمت الطريقة من والدتها. امتلك الفضول الجارة، فذهبت إلى والدة السيدة لتسألها عن سبب قطع الرأس والذيل، فأجابت الوالدة أنها هي أيضاً لا تعرف السبب، وأنها تعلمت طريقة صنع طبق السمك من والدتها التي لا تزال على قيد الحياة. ذهبت الجارة من فورها إلى الجدة، وعندما حدثتها بالقصة، وسألتها عن سبب قطع الرأس والذنب، انفجرت الجدة ضاحكة، وقالت لها إن السبب أن مقلاتها كانت صغيرة، وكانت تضطر لقطع الرأس والذنب حتى تتسع المقلاة للسمكة!
كثيرة هي تصرفاتنا المشابهة لقطع الرأس والذنب، ذهبت الحاجة لكن بقي السلوك، والسبب ببساطة غياب السؤال.
بعد سن الثالثة يبدأ الولد بإرهاق أهله بسؤاله المتكرر المتوالي (لماذا؟) وكل جواب يجرّ (لماذا؟) أخرى، حتى يكتفي الولد ويهز رأسه ليعيد الكرة في موقف جديد بعد وقت قصير. يتلاشى هذا السؤال من أذهاننا مع تقدمنا في العمر، وتتحوّل سلوكياتنا إلى عادات غير مفهومة تأسرنا بقوة، وحتى لو أحسسنا منها بالضجر، فلا نجرؤ أن نعود إلى سؤالنا الطفولي (لماذا؟)!
كنت في حديث مع صديق إنجليزي عن بعض عادات الإنجليز، وبعد عدة أسئلة قال لي: “هل تعرف أنني مسرور بأسئلتك لأنها جعلتني أفكر بأمور كثيرة أفعلها وفق العادة، ولم أفكر بها يوماً”. الأمر ذاته حدث معي عندما سألتني صديقتي الألمانية: “لماذا الوشم حرام في الإسلام؟” فقلت لها الجواب الذي حفظته من صغري: لأنه تغيير لخلق الله، فأجابتني بابتسامة ساخرة: “ولكنكم تثقبون آذان بناتكم وتطهرون أولادكم الذكور، وهذا تغيير لخلق الله”.
كثيراً ما أفكّر أن إحساسي بالضياع في أمر ما سببه عدم وضوح السؤال في ذهني.. بل إنني استخدمت طريقة السؤال لأتخلّص من ضيق يصيبني، بأن أقف مع نفسي بوضوح سائلاً إياها: لماذا أنت في ضيق الآن؟ وبعد أن أضع الجواب، أسأل نفسي: ولماذا هذا الأمر يسبب لك الضيق، ومن ثم سؤال: وماذا الآن؟ هل يمكنك تغيير شيء نحو الأفضل.. أم أن الأمر حدث وانتهى؟..
ثقافتنا عموماً تقدّس الإجابة وتكره السؤال؛ نمدح إنساناً لأن عنده جواب لكل سؤال، مع أن هذا الرجل قد لا يكون يوماً فكر بسؤال واحد من تلقاء نفسه، وإنما حفظ الأسئلة والأجوبة كالببغاء.
بعد كل جلسة نقاشية مثيرة لأسئلة هامّة، يخرج معظم الحضور منزعجين لأننا لم نصل إلى جواب للأسئلة المطروحة، وكأنه لو كان الأمر بهذه السهولة لما بقي للسؤال معنى!
دخلت في حوارات كثيرة مع ناس من مختلف الأجناس، وفي مختلف الموضوعات، وفي كل مرة أجد أن أساس أي أمر هو إثارة السؤال، وأنك إن لم تستطع إثارة السؤال في نفس الإنسان، فلا معنى لأن تبادر بإعطاء الجواب.
واليوم وبعد كل ما حدث في سورية، لا يزال كثيرون يرفضون السؤال عن سبب ما يحدث؛ فالأجوبة جاهزة، وكل منّا عنده أجوبته لـ (لا أسئلته)!
لم نتساءل بعد بصدق وحرقة، سؤالاً يتعدى دمدمة اللسان إلى إعمال الجوارح والفؤاد بكل الوسع والطاقة: لماذا تحلّ بنا كل هذه المصائب؟ لماذا ظهرت داعش؟ لماذا لا تقوم للمسلمين قائمة في كل أنحاء المعمورة؟ لماذا لا يعرف المسلمون طريقاً إلى العمل الجماعي؟
كل هذه الأسئلة وغيرها لا تنتظر إجابات بعد، فهي لم تُسأل أصلاً حتى الآن! لكنني متفائل بأننا سنبدأ قريباً بالعودة إلى إنسانيتنا، وبالعودة إلى سؤالنا الطفولي البريء: لماذا؟
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج