قبل ثمانية أعوام لم أكن أحلم بنشر مقال في الجرائد الحكومية (تشرين، البعث، الثورة). راسلت تلك الجرائد لفترات طويلة ولكني- كما الكثير من أبناء جيلي- لم أجد أذناً صاغية. ربما كنت حينها كاتباً رديئاً، ولا أدعي عكس ذلك الآن، فهذه مسألة يتحكم بها السوق والترويج بالدرجة الأولى.
ولم تكن الجرائد الخاصة بأحسن من ذلك؛ (بلدنا، الوطن). أذكر المرة الأولى التي دخلت فيها جريدة الوطن لمحاولة تقديم شرح لرئيس التحرير عن مقال كتبته عن سوق الحرامية المحاذي لوزارة الداخلية. لم أعد للجريدة مرة أخرى كما أن سحنته العابسة كانت كفيلة بجمع أوراقي قبل وصول دورية الأمن. أما الجرائد اللبنانية والعربية التي كانت تتمتع بمساحة من الحرية، فلم تكن مخصصة لكتاب شباب يحاولون إيجاد فسحة من التعبير، فهنالك (أساطين) كتابة كانت تكتب في هذه الجرائد.
عند انطلاق الثورة السورية لم أكن أفكر في كتابة المقالات، فالحدث أسرع وأكثف من الكتابة عنه، لكنني حظيت بفرصة التقاء رئيس تحرير جريدة “سوريتنا” عندما كان يفكر في مشروع الجريدة. سحرتني فكرة الجريدة التي كانت أشبه بالمنشور الذي يوزع بالأيدي.. الكتابة الصحفية التي تخرج من الناس وإلى الناس.
انطلق مشروع سوريتنا وحاولت كما حاول العديد من الأصدقاء العاملين في الجريدة أن نواكب الحدث وأن نستجيب له. كما كانت الكثير من الجرائد التي انطلقت آنذلك توزع وتطبع بالأيدي.
وخلال السنة الأولى في الثورة كانت الجرائد المطبوعة تشكل حالة فريدة واستثنائية في العمل المدني، وكانت التجربة ستثري الحراك فيما لو أتيح لها العمل والتفاعل أكثر، ولكن مع دخول العمل المسلّح والعسكرة على الثورة السورية، شكّلت هذه المرحلة نكوصاً في عمل الجرائد. ولا يعود ذلك في البداية لطبيعة العمل العسكري بل لتمسك وتمترس العاملين في الجرائد بنقطتين أساستين: تجنّب مناقشة ومخاطبة شباب الثورة المسلّحين، ومحاولة الانتقال بتلك الجرائد للعمل الاحترافي على اعتبار أن الحيادية هي المعيار الأساسي في الحرفية، كما هي سياسة الجرائد الرسمية سواء العربية أو العالمية.
اللغة التي كانت تكتب في تلك الجرائد المطبوعة لم تكن تناسب طبيعة الأماكن التي يوجد فيها الثوار المسلّحون، كما أنه لا يوجد لديهم الوقت لقراءة تحليلات طويلة وتوصيفات تبدو أنها قادمة من مكان آخر غير عالمهم.
أذكر أنني منذ ما يقارب 4 سنوات اقترحت على عدة أشخاص عاملين في مجال المطبوعات الثورية ملحقاً يخاطب المنشقّين والثوار بطريقة بسيطة؛ يتألف من عدة صفحات تتحدث فقط عنهم، ليصدر بمنشور أسبوعي للفصائل المسلحة. لكن الكثيرين رفضوا تلك الفكرة والتعاون معها.
عندما دخلت المناطق المحررة في الشمال كانت الجرائد المطبوعة قد انتعشت من الناحية الإخراجية والمادية، وبدأت تلك الجرائد تكوِّن جمهوراً جيداً، ولكن لا يعكس الواقع الذي تعيشه مناطق مختلفة في سورية. لقد ضمنت هذه المطبوعات الاستمرارية بدعم من مؤسسات أجنبية، لكنها فشلت في خلق خطاب حقيقي يخرج من الناس وإلى الناس. قد يبدو ذلك تصنيفاً عريضاً وغير منصف، ولكن لا يمكننا تناسي حقيقة الدمار الكبير والصدمات النفسية التي يتعرض لها المواطنون يوميّاً.. وحصول شرخ في المجتمع بين عسكر ومدنيين ومتطرفين. وكما كان سبب انتعاش المطبوعات هو الحراك المدني والهوية الوطنية التي خُلقت آنذاك، فإن سبب نكوصها هو غياب الحراك المدني، وتهدم الهوية والتمترس وراء الحراك المدني في ظلّ غيابه أساساً!
إن الثورة خلقت مساحة من التعبير جعلتني بكل تأكيد قادرا على تأسيس جريدة، وليس فقط كتابة مقال. هذه واحدة من أهم المكتسبات التي حققتها الثورة والتي لا تسقط بالرغم من هول الدمار والدم. ولكن انتعاش المطبوعات وفشلها مسألة لا تتعلق بذلك أبداً.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج