حدثان إرهابيّان؛ أحدهما في مدينة “نيس” الفرنسيّة، والثاني في مدينة “حلب” السوريّة: إرهابيٌ يقود شاحنةً ويدوس “عدوّه البعيد” من البشر لمسافة اثنين كيلو متر، وزمن يتجاوز ثلاث دقائق، وآخر يحزُّ عنق “عدوّه القريب” لمدة تتجاوز ثلاثين ثانية! فهل من جديدٍ في هذين الفعلين الفظيعين؟!
الجديد جديدان؛ جديدٌ في زمن فعل القتل الذي استهلكه القاتل، وجديدٌ في غياب “مبدأ الهوية” أثناء تبرير القتل في الحادثتين! والفظاعة فظاعتان أيضاً؛ فظاعةُ القتل نفسه، وفظاعةُ تبريره!
الجديدُ بهذا الفعل الفظيع هو استمرارُ فعل القتل مع الزمن وكأنه “نشاط”؛ كاللعب والسباحة والعزف، في حين كان القتل سابقاً، كحالة لا كنشاط، نقطةٌ واحدة في محور الزمن: فقطع الرقبة بالسيف لحظة، وتفجير الجسد بالآخرين لحظة، وصدم طائرة لبرج “التجارة العالميّ” لحظة كذلك.. بينما حزّ الرقبة لحظات متوالية! ودهس البشر كذلك!
جديدُ الفظاعة وغرابته هو جديد القاتل كزمنٍ مستمرٍ في حالة القتل. وينقلنا هذا الجديد من حالةٍ ناطقة بذاتها البشعة والفظيعة إلى “نشاطٍ” يدوم لحظات عدّة مُعمِّقاً البشاعة والفظاعة لدرجة نوعيّة! ففعلُ القتلِ بذاته، عادةً، لحظيٌّ وحاليٌّ وآنيٌّ في خط الزمن الممتد إلى ما لا نهاية له، وليس فعلٌا ممتدٌا ومستمرٌا على هذا الخط. فالقتلُ كفعل مستمر أو كنشاطٍ مع تغير الزمن يختلف عن القتل كحالة في لحظة زمنيّة مُقتطعة؛ القتل الثاني نقطة في خط الزمن، بينما القتل الأول عدة نقاط مستمرة!
من هنا، استوقفني جديد الإرهاب مؤخراً! وينبع هذا الجديد من تناقضه مع اللّغة الراسخة والمقعدّة والمقوننة التي تماشت مع “القتل-اللحظة” وعبّرت عنه ووضعت له القواعد، ولكنها لم تنتبه “للقتل-الاستمرار” لأنَّه جديدٌ! وكذلك ينبع الجديد من غياب “مبدأ الهوية” عن محاولات التفكير في هذا القتل الفظيع وتبريره والبحث في أسبابه وإلقاء المسؤولية على أعداء أساسيين. فطالما أنَّ ما هو ليس هو، أو الشيء ليس نفسه، سينتج عن غياب “مبدأ الهوية”، الذي يفيد الخروج من الاختلاط، تنامي حضور “مبدأ المخلوطة”! وهذا مبدأٌ لا يُقيم المعرفة بالشيء من جهة، ويُذهب بطريقه مسؤولية النفس الفرديّة أدراج الرياح من جهة.
ولأنَّه لا تقدم بدون فكرة الجديد، ولأنَّ التقدم يمكن أنْ يكون بالقتل والتدمير كما يمكن أنْ يكون بالولادة والتعمير، فإنَّ القتلَ كنشاطٍ مستمر وكفعل ممتد هو حالةٌ جديدة وغريبة متقدمة على سابقاتها من أفعال القتل.
لا يجوز مثلاً بقواعد اللّغة الإنكليزيّة أن أقول: أنا أدهس البشر الآن وما زلت أدهسهم، أو أنا أحزُّ عنق فلان الآن وما زلت أحزّه، أو أنا أقطع إصبعي الآن وما زلت أقطعه. دهس وحزّ وقطع.. انتهى الفعل بدون استمرار زمنيّ كنقطة معزولة. أما كلحظة غير ممتدة زمانياً يجوز أن أقول وأعبر عن هذه الأفعال، ولكن كفعل ونشاط مستمر لا يجوز ذلك لُغوياً رغم حدوثه العيانيّ مؤخراً. ولأنَّه لا وقائع تاريخيّة تشير إلى عكس هذه المفارقة في الماضي، بُنيت القاعدة اللّغويّة على هذا الشكل. أما الآن، وبعد وقوع الحدثين، اعتقد أنَّه يجب تصحيح القاعدة النحويّة التي لا تُجيز هذا التعبير؛ لأن هناك واقعتان، على الأقل، وقعتا وفيهما استمرار وامتداد زمنيّ بفعل القتل و”نشاطه”. وكتقريب للفكرة نجد اللّغة العربيّة مثلاً لا تُفاضِل بين حالات الموت ولا بين حالات الوجود كذلك؛ فلا نقول فلان أموت من فلان أو فلان أوجد من فلان! فاللّغة بنت الوجود الاجتماعي للبشر، وتُعبر عن هذا الوجود. وعندما ينحو الوجود الاجتماعي منحىً جديداً تتجاوب اللّغة مع الجديد وتسعى للقبض عليه وتمثيله. وكطرفةٍ على تجاوب اللّغة، تداول السوريّون فعلَ “انتحروه” للقبض والتعبير عن واقعة قتل “محمود الزعبي” الذي قيل إنَّه انتحر، ليُعبَر عن انتحاره بفعل فاعل هو سجانه!
لا يجوز في الفعل المستمر (continuous) التعبير عن القتل لأنه فعل غير مستمر، فكيف صار مستمراً؟! هذا ما أدعوه جديد الفظاعة. أي أننا أمام فعل مخالف لأوجه إنتاج البشر لوجودهم عبر آلاف السنين.
أما عن الجديد في التعبير والتفكير عن الحادثتين في مواقع التواصل الاجتماعية الافتراضية، فهو تفكير لا يُقيم معرفة لغياب “مبدأ الهوية” في هذا التفكير. فبدلاً من الإشارة إلى النفس الفرديّة التي قامت بالفعل، يتم الإشارة إلى النظام السوريّ والإيرانيّ والروسيّ مثلاً، أو إلى دين القاتل أو طائفته أو جنسيته. فالشيء هو نفسه أو ما هو هو؛ أي “أ هي أ” في الصيغة الرمزيّة، وليس خفياً أنَّ هذا المبدأ مبدأٌ أرسطيٌّ يتجاوز عمره الألفية الثانية. ولكن غيابه يؤكد غياب مسؤولية النفس الفرديّة التي طالما أكد عليها دين الله الواحد؛ اليهودية والمسيحية والإسلام. ويؤكد أيضاً على الاختلاط؛ الشيء الذي يقوِّض إمكانية المعرفة وإمكانية الحكم المعرفي وإمكانية تحميل المسؤولية فيبقينا في الاختلاط ضائعين.
وهذا يؤسس لممارسة جديدِ الفظاعة هذا، والتأقلمِ معه عن طريق التغذية الراجعة. ونلاحظ فيه ذهاب الخوف والقرف والخجل وتنامي الفخر والاعتزاز بالفعل الفظيع.
هنا لا أناقش القتل عموماً، بل جديده، ولا أناقش التعذيب، بل فعل القتل كفعل مستمر يتناقض مع إنتاج الحضارة الإنسانية التي لم تُبح التعبير عنه قبلاً لغيابه في الممارسة، وما ظهوره الآن إلا في سياق “ما بعد حداثي” جديد كل الجدة عما ألفناه سابقاً. إنَّه التحول من الحالة إلى النشاط!
بالطبع لسنا هنا في سياق تطوير اللغة وجعلها تُعبِّر عن حالات الحاضر الجديدة، ولكننا نؤشر إلى نمو الفظاعة الجديد، غير المألوف في تاريخ البشر، ونؤشر على ضحالة النظارات التي نضعها ونرى الأمر الفظيع والبشع في جديده رؤية نمطيّة تنتمي للبروباغندا الحضارية، بدون رفع قيمة الإنسان فوق جميع القيم كغاية أولى.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.