مجلة طلعنا عالحرية

جديدة عرطوز – فلسفة المجزرة / زياد ابراهيم

MAJZRA

لا زال ذلك اليوم ينسج في المخيلة تفاصيلاً مرعبة ليحيك منها ذكرى يزيد أساها كلما مر عام على مجزرة من أبشع المجازر التي اقترفها النظام السوري بحق الانسان والإنسانية.

يبدو تعبير “من ابشع المجازر” تعبيرا لا منطقيا فهو يحيل الى مقارنة بين مجزرة بشعة وأخرى جميلة أو أقل بشاعة, لكنه في الحقيقة تعبير يعتمد بوصف البشاعة على أضافة خسائر المجزرة الموصوفة الى خسائر سابقة حدثت في مجازر أخرى فعندما تخسر “ابراهيم” في مجزرة فهي ستكون من أبشع المجازر لأنك سبق وأن خسرت “جهاد” في مجزرة سابقة والحال الان وكأنك خسرت “إبراهيم وجهاد” في مجزرة واحدة, اذا فهي من أبشع المجازر, ولذلك يمكن أن نوصف كل مجزرة حدثت في الأعوام السابقة بأنها أبشع من التي قبلها لأننا في كل مجزرة يجب أن نعد  كم “إبراهيم وجهاد وعامر ومحمود و …”  خسرنا قبل تلك المجزرة.

نعم حدثت المجزرة في الأول من أب 2012 في تلك البلدة الثائرة الغافية على طريق القنيطرة والمجاورة لبلدات أعلنت موقفها بكل وضوح من ثورة السوريين منذ البداية (داريا – معضمية الشام – جديدة الفضل) وارتُكبت فيها المجازر فيما بعد كتتمة لتجربة المجزرة التي حدثت في جديدة عرطوز وراح ضحيتها أربعة وخمسون شهيدا بطرق مختلفة من القتل (سحل في الطرقات – اعدام ميداني جماعي …).

والان في الذكرى السنوية الثالثة للمجزرة باتت فلسفة النظام واضحة في استخدام هذا السلاح المخيف مبكرا على هذه البلدة خاصة وأنه يمكننا اعتبار هذه المجزرة ملخصاً لفلسفته في القضاء على الثورة في كل سوريا إذا ما اعتبرنا هذه البلدة الصغيرة صورة مختزلة عن سوريا الكبيرة.

ليست مصادفة أن يرتكب النظام مجزرته في الأول من أب وهو التاريخ المعتمد لعيد “الجيش العربي السوري” ومراده من ذلك أن يقحم الجيش في وجه الثوار ليفشل كل ما فعلوه من محاولات لاجتذاب عناصر الجيش وتحريضهم على الانشقاق الذي وصل في تلك الفترة الى مرحلة مقلقة لرأس النظام بعدما بدأت تأثيراته تلقي بثقلها على عديد الجيش فكان لا بد من توجيه رسالة حازمة الى الثوار والجيش في آن معاً.

سبق المجزرة عمليات اغتيال واسعة من قبل عناصر الجيش الحر لعدد كبير من ضباط وعناصر الامن والشبيحة المتورطين بشكل مباشر في دماء السوريين خاصة وان هذه البلدة تُعد بنك أهداف كبير لأنها تأوي عدداً كبيراً جداً من ضباط النظام وعناصر أمنه وشبيحته حيث كانت اخر عملية اغتيال جرت في البلدة قبل المجزرة بسبعة أيام بحق ضابط برتبة عميد, حدث ذلك بالقرب من مسجد أبي ذر الغفاري وبقيت جثة الضابط ومرافقيه لساعات في الشارع دخلت بعدها قوات النظام الى البلدة بدبابتين وعشرات العناصر من الجيش بالإضافة الى حوامة بدأت بالتحليق في سماء البلدة ثم قاموا بسحب جثة الضابط  “المهم” بعد ان تركوا مرافقيه القتلى لساعات أخرى في وسط الشارع تحت أنظار مؤيدي النظام.

هذه الحادثة شكلت سببا مباشراً لارتكاب المجزرة بحق أهالي البلدة بعد أن عجز النظام عن معرفة وملاحقة عناصر الجيش الحر الذين كبدوه الخسائر الفادحة، فعمل على معاقبة حاضنتهم الشعبية كما فعل في كل بقاع سوريا معبرا عن عجزه بضرب المدنيين بإيهام مؤيديه بأنه قضى على “الارهابيين”.

قدمت البلدة أيضا قبل المجزرة نموذجا رائعا في استقبال العائلات المهجرة من المناطق المدمرة وبالأخص مدينة حمص حيث استقبل أهالي البلدة المئات من العائلات المهجرة واستضافوهم في المنازل وقدموا لهم الخدمات بكافة أشكالها الأمر الذي أزعج النظام الذي يعتبر النشاط المدني والأهلي هو العدو الأول له فكانت المجزرة هي أحد حلوله للقضاء على أي شرعية جمعية تتحقق بين الناس بعيدا عن سلطته.

تنظيم المظاهرات في البلدة ورفع الشعارات الوطنية وصل آنذاك الى أكبر زخم له فكانت البلدة تسهر في كل ليلة على هتافات أبنائها التي تردد صدى هتافات درعا وحمص وحماة إضافة الى الخدمات الطبية التي كان يقدمها الكادر الطبي في البلدة والذي وصلت خدماته الى المناطق المجاورة لتأمين صمود الثوار في وجه الة القمع. هذا الزخم الثوري كان لا بد للنظام أن يتلقفه بحذر شديد ولم يكن لديه سوى المجزرة فهي الحل الوحيد برأيه للقضاء على كل من يقول لا.

عدا عن شهداء البلدة استشهد في المجزرة أيضا شهداء من جديدة الفضل ومعضمية الشام وحمص وحماة ودرعا لتكون هذه البلدة وبحق صورة مصغرة عن سوريا النازفة التي امتزجت دماء أبناءها بترابها في كل بقعة من بقاع جغرافيتها بعد ان امتزجت امالهم في صناعة تاريخها.

بين التاريخ والجغرافية ستبقى مجزرة جديدة عرطوز رمزا من رموز العزة لثورة الحرية والكرامة ورمزا من رموز العار للطاغية ونظامه. وحين يذكر السوريون اليوم تشييع شهدائهم في هذه المجزرة فان تلك الوجوه الغاضبة وان مر عليها التاريخ الطويل ستعود الى جغرافيتها لتبني الحلم فيها وتكّرم كل قطرة دم سالت من شهيد على هذا التراب.

Exit mobile version