مجلة طلعنا عالحرية

جائعٌ للحوار.. جائع للحياة

يوسف صادق

المواطن السوري جائعٌ لكل شيء.. جائع لرغيف الخبز بقدر جوعه للفكر الحر والتنوير، جائع للدفء والأمان بقدر جوعه للكرامة والحق والعدالة، وبقدر جوعه للخلاص من ويلات الحرب وأمرائها، جائع للتعبير عن وجوده وكينونته المتلاشية بقدر جوعه للحوار وبقدر جوعه للتخلّص من سجون التاريخ والعادات والاستبداد..
والجوع لا يعرف أولويّةً عند الحرمان من كل أسباب الحياة، هذا ما وصل إليه السوريُّ؛ حرمانه من أمان الحاضر وآمال الغد. عندما تحدّث سعد الله ونوس في يوم المسرح العالمي، تحدّث بلسان السوري المتطلّع للانعتاق من الأوصياء على حرية فكره وتجربته، طالب بهدم جدران الاستبداد بدءاً من السلطة الأبويّة الموروثة في تاريخنا، والحاملة لاستبداد سياسي وديني، وطالب بهدم جدران الوصاية في الأحزاب وعقائديّتها وعصبويّتها وشوفينيّتها ومآرب المتسلّطين فيها.
طالب بهدم جدران وصايا المتديّنين على العباد، وكفّ يدهم عن الوساطة مع الخالق، وإيهام العباد وتبعيّتها العمياء، وطالب بهدم جدران الخوف العالية في الذات الإنسانية قبل أن تعلو جدراناً من الحديد، يقبع خلفها كلُّ ذي رأي وكرامة..
كل ما فعله ونوس أنه طالب بالانفتاح وانعتاق الإنسان الحر من عبودية الذات وسجونها التاريخية والجغرافية ليشمل الحوار كل المجتمع الإنساني ومصيره المشترك. لعلّه اختصر حكاية السوري في ظل الاستبداد، حينما يصبح الجوع للحرية بوصفها دافعاً ونزوعاً أصيلاً لدى الإنسان، متزامناً مع أرقى ما أنتجه، يكون الجوع عودة لبدء، عودة لذات الإنسان ومركزيّته في الكون والمجتمع.
هذا الكلام يدركه المعتقل في سجون النظام، بل يعيه بكل جوارحه، ويعي المعادلة النافية والطاردة بقدر تكافؤها وتلازمها بين رغيف الخبز والحرية. نافية وطاردة جدلياً لأنه يدرك أنها نهج الأنظمة القمعية؛ فبقدر التغوّل بالعنف بكل أشكاله، يقل ويضمحلّ الإحساس بالذات وعنفوانها، وتصبح الذات أسيرة غرائزها وأيديولوجيتهاالانتكاسية، تصبح على حد تعبير الكواكبي (ـسيرة)، ممّا يجعلها طاردة ونافيةً للمكافئ وهي الحرية، ليس هذا وحسب بل لكل أشكال الليبرالية والانفتاح على الآخر، بل وللاعتراف بالحقيقة الموضوعية؛ فغرائز الذات تصبح (تابو) تعمل عمل التعمية عن تحقيق ما يجب أن تكون عليه، فتنكفئ على عصبويّتها، وقد تكون بأشدّ وحشية وبهيميّةٍ كما هي حال المجرمين والمدمنين على القتل والتعذيب، إذ تنفي الآخر وتطرده ليس من حياتها بل من الحياة والوجود. فلا انوجاد إلا لنكوص الذات، أمّا هزيمتها كذات فاعلة إنسانية ، فهي الإمعان والتماهي أكثر مع المتسلط بأساليبه وحياته.
أمّا المطرود الآخر فهو المشاركة عامةً أو وجدانيّةً اجتماعيّة وهذا ما يفسّر العزوف عن الهم العام والسياسة، وكل ما هو متعلق بالوجدان العام، وليست السلبية إلّا أقلّ أشكالها ظهوراً لدى الأشخاص في المواقف العامة.
المتسلط يدرك مآلات معادلة رغيف الخبز والحرية، بل خبرها وتفنن بممارستها، ويستمتع بالتحوّلات التي تصيب الذات من مستقلة فاعلة حرّة ذات إرادة، إلى تابعة سلبية ذات أيديولوجيا وعصبيّة، يدركها كما يدرك مروّض الخيول الفرق والنفي بين حصان أصيلٍ يعيش في البراري وبين حصان يقوده حتى إلى الهاوية. كما تختصرشخصيةً يطرحها أيمن العتوم في رواية يسمعون حسيسها. عندما يخرج السجين/ المعتقل من السجن يلوّح لجلّاديه، فقد ألف واعتاد السجن بكل ما فيه، حتى صار بكينونته جزءاً من نظامه وبنائه؛ فالذلّ جزءٌ من نظام الاستبداد، وهدر الكرامة أساس للبناء، وسياسات التجويع والاحتقار أعمدةً تعلّق عليها الأعلام، والقتل والوحشية جدران تعلّق عليها صور المستبدين والطغاة.
كم نحتاج لدراسة ما آلت إليه الحرب في سوريا؟وكم نحتاج لإدراك وسبر أغوار نفس الإنسان السوري بعد عقود من الاستبداد؟ثم كم نحتاج الآن بإلحاح للإجابة بل لمحاولة فهم ما جرى من خذلان وهزيمة بعد أكثر من عقدٍ على ثورته!
التطورات الأخيرة في الشمال المحرر بين قوسين، المحرّر من النظام السوري، والمحتل من أنظمة ليست مغايرة عنه. أمراء الحرب والمتطرفون، والعنف وسحق الصوت المعارض، واعتقال أصحاب الرأي وناقلي الحقيقة، وليس أخيراً فرض أيديولوجيات دينية وعقائد عسكرية، ومن ثم التجويع والفساد والأتاوات والبلطجة.. كل هذا عناوين معاشةٍ يومياً يدفع ضريبتها حتى النازحون في الخيام، إذ لا يسلمون من شرور المتحاربين على المكاسب وتقاسم النفوذ على الأرض ومعابر التهريب، حتى لا يسلمون من التبعية والولاءات سواء كانت للدول المحتلة أو للنظام وحلفائه.
فإن أرادت تركيا تحصيل مكسب ما أو أرادت روسيا ذلك فسكان المخيمات هم من يدفعون الثمن، كما حدث في مجزرة مخيم (مرام).
لنتساءل هل هذا هو الشمال المحرّر؟ هل هو البداية لتحرير باقي الأراضي السورية لتصبح على شاكلتها، إمارات وولاءات وقمع وفساد؟ هل هذا هو المستقبل السوري ومستقبل الثورة؟
والسؤال الآخر عن الجنوب ليس أقلّ شأناً، فليست المشكلة بإحداث داعش من قبل النظام للقضاء على أي محاولة للتمرد على نظامه، بل المشكلة فيمن يتبعون داعش وهذا التساؤل خطيرٌ.
أمّا عن السويداء التي ماتزال تخطو نصف خطوةٍ ثم تعود خطوتين ممكّنة النظام من إعادة سطوته الأمنية وإحلال الفوضى شريعةً للبقاء.
وليس أقلّ شأناً ما يحصل لدى الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي بين مشابهة للنظام البعثي الأمني، وبين ضياع البوصلة في تحالفاتها الدولية على حساب شعبنا السوري هناك ومكوناته الإثنيّة والقومية.

كل ما يحصل في أرجاء سوريا ليس بالتأكيد هو النهاية، كما أكّد سعد الله ونوس في خطابه بيوم المسرح، وما زال الجوع للحوار بقدر تكافؤه بالجوع لرغيف الخبز. بحاجة إلى أن يحسّ الإنسان السوري بالشبع بقدر إحساسه بمعاني الحرية، حتى يشعر أن الكرامة هي ذاته الإنسانية وليست قيمة مضافة، أو طبعاً موروثاً عن الأجداد.
هي حقّه الذي تستحقه الذات البشرية كما كرّمها الله وكانت أساس الشرائع والدساتير والفلسفات.
بحاجة إلى الوعي أن ذواتنا تستحق وكم هو المشوار صعبٌ وطويل.

Exit mobile version