ميمونة العمّار*
منذ ثماني سنوات، وفي كانون الأول من كل عام، تكتمل سنة أخرى من الشك وعدم اليقين حول مصير أصدقائنا المخطوفين، رزان وائل، سميرة وناظم. سنوات عشناها بين ألم الذكرى ومرارة الفقدان، وهل يمكن أن ننسى؟!
في كل سنة، كانت محنة ذوي المخطوفين تزيد، إلى أن بلغت ذروتها بعد عودة سيطرة قوات النظام على الغوطة الشرقية، وخروج الفصائل، ذات اليد الطولى في جريمة خطفهم، من المنطقة دون تبيان أي جديد حول مصير المخطوفين، ولتذبل بذلك واحدة من أكبر بوارق الأمل منذ اختطافهم.
لكننا وكحال الآلاف من أهالي وذوي المغيبين قسراً، لن يهنأ لنا عيش أو تقر لنا عين، ما دام أحبابنا مجهولي المصير. غيابهم أصبح جزءاً من هويتنا، والمطالبة بحريتهم ورفع الصوت بعد رحيل أصواتهم سيبقى عهداً علينا ما حيينا.
بالحديث عن العدالة، ولأكون أكثر تحديداً، مطلبنا الأول هو معرفة الحقيقة وكشف المصير، لأن لا عدالة يمكن أن تتحقق بعد كل هذه السنوات وهذه الخسارات على المستوى الشخصي والاجتماعي.. بل على المستوى الثوري والوطني، فلا يخفى الشأن الكبير والمساهمة المهمة للناشطتين والناشطين المخطوفين، والذين كان وجودهم بيننا اليوم -لو أمكن- سيحدث فارقاً لا ريب فيه، في نضالنا نحو تحقيق الحرية والكرامة للشعب السوري بكل أطيافه، بمن فيهم خاطفوهم!
لطالما أن المساءلة ارتبطت بالقدرة على تقديم الإجابات وتحمل المسؤولية، هي تبدأ بالنسبة لي من تقديم الإجابات حول حقيقة ما حدث حقا لزوجي وأخويّ ووالدي ووالدتي وأقاربي.. حين تم اعتقالهم عشوائياً وتعذيبهم. قرأت وسمعت شهادات مباشرة من معتقلين سابقين، لكن أقرب الناس إلي امتنعوا عن مشاركتي إلا بالحد الأدنى.
كيف قُتِل ابن عمي وابن خالتي؟ والعديد من أقاربي وأصدقائي؟ ولماذا؟ ومن المسؤولون عن مقتلهم؟
أريد لتلك الحقائق أن توثق، وأن يتم الاستناد إليها ليتحمل الجلادون ومن وراءهم مسؤولية أفعالهم.
السلام لا يتحقق وحده بمجرّد إسكات صوت البنادق، أو توّقف جرائم الانتهاكات، بل ينبغي الاعتراف بالمعاناة التي تكبّدها الضحايا، ينبغي الاعتراف بالمعاناة التي يعيشها أهالي المخطوفين، بالرعب الذي يتقاسمونه مع ملايين من عائلات مئات آلاف الأشخاص المختفين قسراً في سوريا، والذين تضاعفت المخاطر على حياتهم، خاصة بعد قدوم جائحة كورونا.
السلام ومعرفة الحقيقة أمران ضروريان ويعزز كل منهما الآخر!
وفي الختام أود التأكيد أن قضية المخطوفين العامة لها بعد خاص وشخصي عند مجموعة كبيرة من السوريين والسوريات؛ لأنها قضية كل السوريين الساعين للحرية والكرامة في تعقيدات السياق السوري.
أنا وزوجي والمخطوفون الأربعة اخترنا أن نكون في منطقة سيطرة الفصائل، لجأنا للغوطة الشرقية بحثاً عن الحرية والكرامة، هرباً من الاعتقال والمذلة، عشنا القصف بجميع أصناف الأسلحة والحصار الأشد فتكاً..
ما كسر ظهرنا لم يكن الحصار ولا التجويع ولا الكيماوي.. كان الأشد إيلاماً منها جميعاً، طعنة في الظهر ممن ظننا فيهم أن مركبنا معهم واحد، رغم وصول تطمينات شديدة من قائد الفصيل المهيمن على المنطقة بعد حادثة التهديد الأولى، وقبل حادثة الخطف، وصلتنا رسائل: أننا بأمان وأن “علينا الأمان”!
كنت وزوجي قاب قوسين أن نكون هدفاً مباشراً لهذه الجريمة نفسها، لكن ولسبب ما شاءت الأقدار غير ذلك.
لا، لم يكن الحصار والقصف هو أقسى ما مر علينا.. بل المضايقات التي وصلت إلى تخويننا وتهديدنا بالقتل، بل والشروع في قتل زوجي أسامة نصّار.. الأقسى هو عندما تكون في موقف تطالب فيه بإثبات وطنيتك وانتمائك للثورة واعتقاداتك.. تلك هي الفتنة، وهي أشدّ من القتل. وهو ما لم يمهل الخاطفون أصدقاءنا حتى يؤدوه!
عندما أقول إن قضية المخطوفين لها بعد خاص، فأنا أعي ما أقول، وأنا المفجوعة بغياب أخوي الوحيدين وعمي وعدد من أقاربي في سجون وأقبية نظام الأسد، في مأساة بلغ عمرها 9 سنوات إلى الآن. هي قضية الحرية والكرامة عينها، تعدد المجرمون والجريمة ذاتها. ولا ينبغي النظر إليها على أنها أخف وطأة أو أقل شأناً.
إذا كنت من دعاة الحرية والكرامة، فسيمكنك أن تستشعر بوضوح كيف تمسك قضية المخطوفين كما تمسك قضية مئات آلاف المغيبين قسراً لدى نظام الأسد.
* كلمة للناشطة ميمونة العمار في ندوة “تقاطع الشخصي والعام في جريمة تغييب ناشطي دوما الأربعة”
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج