مجلة طلعنا عالحرية

ثلاثيّة غرناطة

بشرى البشوات

“تبدو المصائب كبيرة تقبض الروح، ثم يأتي ما هو أعتى و أشد فيصغر ما بدا كبيراً و ينكمش متقلصاً في زاوية من القلب والحشا”. رضوى عاشور في روايتها ثلاثية غرناطة.
كُتبت الرواية في ثلاثة أجزاء، آخرها جزء الرحيل، غَرناطة؛ التي تعني الرمانة وسمّيت بذلك لشدة جمالها.
يكمن صراع القصة لحظة سقوط غرناطة، بعد تنازل أبو عبد الله الصغير حاكم غرناطة آنذاك إلى فرناندو وايزابيلا عن الحكم عام 1492 هجري.
من هنا تتوالى الأحداث، حيث تبدأ محاكم التفتيش وعمليات الاضطهاد العرقيّة، فيتم تغيير جميع أسماء أفراد المجتمع إلى أسماء مسيحية، وتحوّل المساجد إلى كنائس.
ويتم إجبار الناس على تحويّل دياناتهم من الإسلام إلى المسيحيّة بالتعميّد. ثم منع العادات والتقاليد الإسلامية التي قام عليها المجتمع سابقاً، وإحراق جميع كتب اللغة العربية والمصاحف.
مما يشكل صدمة على جميع فئات المجتمع في غرناطة. فتبدأ الهجرات الجماعيّة ويعلن التاريخ مرحلة انتقاليّة.
البطلة الرئيسية في الرواية “عائلة أبو جعفر” الذي كان يعمل مجلّداً للكتب، وفي خضم كل ذلك تعيش العائلة وتنجب وتفرح بأبنائها، ويموت بعض أفرادها فيحزنون لكنهم يستمرون في العيش.
في نهاية الرواية يتأكد “علي” أحد أبطالها أنه، وبالرغم من كل ما حدث لأهل الأندلس من المسلمين، فإن الموت هو في الرحيل عن الأندلس وليس في البقاء فيها: “نحن لا نختار بين بديلين، بل هو قدر مكتوب، نحن مهزومون فمن أين الاختيار؟”.
غَرناطة الحصن الأخير للمسلمين في الأندلس
تركّز الراوية على الشخصيات البسيطة، لم يتم تحميلها بالأسماء الكبيرة؛ الأمراء والحكام الذين أضاعوا غرناطة.
…..
كنت قد اشتريت رواية ثلاثية غرناطة من مكتبة النوري في قلب دمشق في شهر آب من سنة 2015، قبل أشهر قليلة من مغادرتي دمشق وسوريا نهائياً! (طبعا لم أكن أتوقع ذلك).
مرت ست سنوات على ذلك اليوم، حين مشيت وحدي عبر شوارع دمشق.
التقطت الكثير من الصور، نظرت في صور الإعلانات، والأبنية والشوارع والساحات والشرفات المفتوحة على شمس دمشق الحارقة في ذلك الصباح.
تتشابك أحداث الرواية كما تشابكت حياتي، وصار من الصعب أن أمسك بأي خيط منها.
تهتم الرواية بالتفاصيل كما امتلأت حياتي بالتفاصيل بعد أن عبرت جبل الزاوية في إدلب وفي حضني ابنتي الرضيعة.
لم أحمل من سوريا سوى جوازات السفر الخاصة بنا، بطاقاتنا الشخصية، جهاز اللابتوب الخاص بنا، ورواية ثلاثية غرناطة!
نعم الرواية من بين خمسمئة كتاب كان موجوداً في مكتبة البيت الذي كنّا نستأجره في مدينة الحسكة، آخر معاقلنا في سوريا، كما كانت غرناطة آخر معاقل العرب في الأندلس.
سقطت حقيبة ظهري مرتين وأنا أركض لأقطع الحدود، وأنا أركض لأنشد الخلاص لي ولهذين الطفلين، لكنني عدت وحملتها لأنني لم أرغب أن أفقد الرواية، ولم أعرف بعد سر عودتي وإصراري على إعادة التقاطها!
عبرنا الحدود في شهر تشرين الأول 2015
أذكر بأنني لم ألقِ ولو نظرة واحدة للوراء، لم أقوَ على رؤية أضواء المصابيح في سوريا التي ظننت بأنني أعرف.
ركضت بكل ما فيّ من طاقة، ركضت حتى دون أن أوقع معاهدة تنازل عن حصة سوريا في دمي.
أردت أن أنشد خلاصي بأنانية مفرطة.
الهرب من الموت
عرفت الهجرة والنزوح مثلما عرفها أبو جعفر في رواية غرناطة. هربت من الموت الذي كان يطاردنا كما طارد عائلة أبو جعفر، لقد هربنا حتى لا يضعف شعورنا بسوريتنا! حتى لا نتهم بالتخاذل في حبّ الوطن تماماً مثلما اتُهمت العائلة في الرواية.
على شاطئ أزمير التركية كان يجب أن أتخفف من متاعي؛ فحمل طفلة رضيعة في حضني كان يكفي، مع بعض حاجياتها وأوراقنا الثبوتية. لكنني لم أتخفف!
كنت قد لففت الرواية مثلما فعلت مع الأوراق بالنايلون، واحكمت إغلاق الكيس جيداً منعاً لتسرب الماء.
حين قام المهرّب بتكورينا جميعاً في أرضيّة (البلم) كدسنا فوق بعضنا البعض دون ترتيب، فتكدّست معي الرواية أيضاً! عبرنا البحر كما فعل اللآلاف من السوريين؛ مشينا فيما بعد في أوربا الشرقية. قطعنا بلاداً لم أفكر يوما بأنها ستنهب قلبي في تلك اللحظات بجمالها الآسر.. وبقيت الرواية معي.
تخففت فيما بعد من حمولتي، رمينا ثيابنا المتسخة، حصلنا على أخرى نظيفة ومكويّة جيداً، ولكنني لم أتخفف من الرواية التي أصابت الرطوبة أوراقها، ومع ذلك حافظتْ على متانتها وظلت ساكنة بهدوء تام في حقيبة الظهر.
أرفع الحقيبة جيداً، أتمسّك بها تماماً كما كنت أرفع طفلتي إلى حضني وأتشبث بها.
أحافظ عليهما جيداً؛ إحداهما على ظهري والأخرى في قلبي!
أصل ألمانيا بعد رحلة استغرقت أيامًا معدودة، لكنها كانت بالنسبة لي دهراً مستمراً في الهرولة.
بعد الوصول وبعد تحقق شرط الأمان المطلوب
أفتح ذات ليلة كتابي المخزّن جيداً، وأطالع لوحة غلافه، رسم أنثى وراء ظهرها يتمثل ماضي غرناطة الزاخر ببساتينه اليانعة، قطعة من جنة مفقودة، وجهها ألوان مختلفة تدل على الكثير من الأسى، وفي العينين لون أصفر مضيء وكأن حريقاً يستعر أمامها، وتنعكس نيرانه في بؤبؤي العينين.
وأبدأ بالقراءة التي أجّلتها قبل أشهر:
الإهداء
إلى ابني تميم البرغوثي.
الإهداء من الأمّ المصريّة رضوى عاشور إلى الابن الفلسطيني.
وأكتب أنا الآن:
الإهداء
إلى ابنتي طلّ!

Exit mobile version