قصي الأحمد
هناك..
في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة، والتي لا تكاد تُرى على الخارطة، كان يعيش بها ما يقارب 400 ألف إنسان، محاصرين من جهاتهم الأربع.
هناك.. حيث كانت تجتمع المتناقضات؛ يجتمع الخوف والشجاعة، اليأس والأمل، التعب والإصرار، القلة والبركة، الجوع والقناعة، رائحة الموت ورائحة الحياة!
لن أتحدث هنا عن تاريخ الغوطة الثوري، ولن أتحدث أيضاً عن مجازر الإبادة التي ارتكبها النظام السوري وحلفاؤه، فهي معروفة أيضاً.
لكني سأتحدث عن شهر، أيامه تختلف عن تلك الأيام التي اعتادها العالم..
هل سمعتم بشهر يومه كشهر؟!
ربما حينما يهتمُّ الإنسان لأمر ما، يتباطأ عداد الوقت في نفسه، لأنه -كما يقول الرافعي-: “متى ثقل الهمُّ على نفس من الأنفس، ثقل على ساعتها التي تكون فيها، فتطول كآبتها ويطول وقتها جميعاً، ولا طبيعة للزمن إلا طبيعة الشعور به”.
في مساء 18 من شهر شباط/ 2018، بدأ عداد الزمن يتغير في الغوطة الشرقية؛ عندما بدأت صواريخ الغراد تتساقط بكثافة على أحد المدن، حينما اتُخذ قرار بكسر إرادة الأهالي هناك.. بالموت..
وأي موت؟ إنه الموت خوفاً ورعباً! وحينما يموت الإنسان بالخوف، فإنه يموت مرتين، مرة بانتظار الموت، ومرة بخروج الروح.
طائرات ومدافع وصواريخ، تريد جعل كل ما هو حي ميتاً
كان أول ما بدأ به القاتل، المشافي! المشافي التي يتباهى العالم المتحضر بمدى تقدمها وتطورها، والتي تستخدم لإحياء النفس وإصلاح الجسد.. هناك في الغوطة.. دمرها القاتل، في رسالة سادية منه، أن لاسبيل هناك إلى الحياة.
مقبرة للأحياء!
أصبح باطن الأرض الذي يُدفن فيه الأموات عادةً، ملاذاً للأحياء، فكان الناس يحفرون في الأرض ليس لدفن الموتى، وإنما لإنقاذ أجساد لم تفارقها أرواحها بعد. وغدا كل قبو وملجأ أشبه ما يكون بمقبرة جماعية يختبئ فيه عدد من الأحياء.. ليس المهم ما يلبسون أو يأكلون، ولا فرق هناك بين غني أو فقير، أو كبير أو صغير، ما يجمع هؤلاء كلهم هو وحدة المصير الذي ينتظرهم.
جميع الفروق التي تضعها عادة قوانين الحياة ذابت في شهر خرج من تراتبية أشهر السنة، ليكون نظاماً وقوانين وأعراف، بل حتى أمنيات خاصة به وحده؛ فلم يعد الواحد منا يتمنى كما الإنسان العادي في أي دولة يحكمها ديكتاتور، حيث إن الفرق بيننا وبينه حينها، كالفرق بينه وبين أي إنسان آخر يعيش في دولة تعتبر تلك الأمنيات حقاً من حقوقه عليها أن تعطيها له.
أمنية واحدة
لم نعد نحلم -كما كنا قبل ذلك الشهر- بالخبز المرقّد بدل خبز الشعير، ولا بوجبة كنتاكي بدل السبانخ المسلوقة، ولا بمنزل تضاء فيه المصابيح بدل ضوء “الليدات” الخافت، ولا بدولة يحكمها القانون بدل الفرد الأوحد، ولا حتى بمستقبل مشرق لنا ولأسرنا..
إن أمنياتنا في ذلك الشهر اختزلت جميعها في أمنية واحدة، أن لا يعلق الواحد منا بين أنياب الموت ومخالب الإصابة، في محيط يمتلئ بهما.. كم هو مؤلم ألا تستطيع الخروج لتدفن الشهيد في مقبرة الشهداء الذين سبقوه قبل ذلك الشهر، فتضطر لدفنه بين الأحياء، ومن يدري.. لربما يتحول المكان الذي فيه شهيد واحد، لمقبرة جماعية بعد حين.
والمؤلم أكثر، أن يتحول الجريح إلى مشروع شهيد، وهو في الأحوال العادية أقرب إلى الحياة منه إلى الممات، ولكن القدر شاء أن يصاب في ذلك الشهر الذي غير كل الموازين.
وحين أتحدث عن الألم هناك، فإني أتحدث عن الألم الذي يرافقه ذهول، والذي يُدخل الإنسان في صدمة، يصحو بعدها ليتجرع مرارة الألم، كالمريض الذي يستفيق من عملية أجريت له تحت التخدير.
مثلما أخبرنا جدي!
في ذلك الشهر كانت معالم الغوطة تتغير ساعة بعد أخرى عائدة إلى الوراء، إلى ذلك الوقت الذي كان يخبرنا عنه جدي “يا بني.. قبل ستين سنة لم يكن كل هذا البناء موجوداً”.
وكان يحدثنا عن احتلال الفرنسيين لبلادنا، وأن بيته ومسجد الحي ظلا واقفين طيلة فترة الاحتلال، ولم يدمّرا إلا على يدي رئيس ظن أن طريق القدس يمر من فوق منازل وجثث شعبه!
لقد سويت آلاف المنازل بالأرض، آخذة معها أحلام وذكريات من عاشوا فيها، وكثيراً ما أخذت معها من عاشوا فيها أيضاً!
هذا هو ذنب الأطفال!
في ذلك الشهر المليء بالصخب والضجيج الذي غالبا ما يكون مصحوباً بالموت، كنا نفتقد لضجيج من نوع آخر؛ ضجيج يحمل معه دفء وحلاوة الحياة، وكان يعيدنا –قبل ذلك الشهر- إلى الفطرة السليمة التي خلقنا الله عليها.
لقد أصبح ضجيجهم خافتاً، وتحول من ضجيج مليء بالفرح إلى آخر مليء بالخوف والرعب، لا لأن خوف الكبار سرى إلى نفوسهم الغضة فحسب، لكن لأنهم لا يعرفون فيمَ يختبئون، ولماذا يُقتلون؟! وهم لم يرتكبوا بعد ذنباً في هذه الحياة، ولكن من يدري، لعل هناك ذنباً لم ندركه حينها، وهو أن هؤلاء الصغار عاشوا لبضع سنوات بعيداً عن حظيرة نظام الأسد، وربما تسربت لنفوسهم فكرة ما عن الحرية والكرامة التي كنا ننشد، فاستحقوا بذلك الرعب والخوف، بل القتل..!
و.. كيماوي!
لم يبق لنا في نهاية هذا الشهر إلا القليل من الهواء لنتنفسه، لكن جشع القاتل أبى أن يترك لنا ذلك الهواء، فلوثه بالغازات الكيماوية ليحصد به مئات الأرواح الأخرى، علّه يروي بها غريزة الانتقام من أناس حاولوا زعزعة مفهوم “الأبد”.
لكن الروح لا زالت هناك
بعد كل هذا.. أجبرونا على الرحيل، نحن أبناء الأرض، لم نرتكب ذنباً إلا أننا أردنا أن نحيا في يوم من الأيام بكرامة، ليست كتلك العيشة البهيمية التي تختصر في الطعام والشراب، والتي دائماً ما يتبجح النظام بها، بل بكرامة احترام العقل والفكر، كرامة احترام الإنسان لأنه -قبل كل شيء- إنسان، ولدته أمه حراً، ومن حقّه أن يعيش في الحياة ويبقى فيها حراً.
لقد تم اقتلاعنا من أرضنا، وتهجيرنا بحافلات أقرب ما تكون إلى التوابيت التي ينقل بها جسد الميت إلى مثواه الأخير بعد مفارقة الروح له، لكن الفرق هنا هو أن الروح هي التي بقيت هناك والجسد هو المفارق. ولعمري إن هذا أصعب من الموت الذي تفارق فيه الروح الجسد إلى غير رجعة.
لكن من يدري؟ فطالما بقيت الروح هناك، فلن يهنأ الجسد أو يستريح حتى يرجع إليها ويتحد معها من جديد.
بدأت القافلة بالمسير، حاملة جسدي، لكن الروح لازالت هناك…
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج