مجلة طلعنا عالحرية

تهافت سياسة الأقليات / علي العبدالله

hqdefault

فتح موقف أبي محمد الجولاني من أبناء المذاهب الإسلامية غير السنيّة في سوريا(العلويون، الاسماعيليون، الدروز، والشيعة) الذي صرح به في مقابلته على قناة الجزيرة، ووضعهم في خانة المحتاجين إلى تصحيح العقيدة، وتحديده صيغة التعامل معهم بدعوتهم إلى العودة إلى صحيح الإسلام أو إقامة الحد عليهم، فتح ملف منهج التعاطي المطلوب في هذا اللحظة السياسية لتجنيب البلاد مزيد من التفكك والتشرذم والتذرر.

تزامنت مقابلة الجولاني مع تعرض علويين ودروز لإساءات ومجازر على أيدي حركات السلفية “الجهادية” فشكلتا تجسيدا للفكر السلفي “الجهادي” النظري والعملي ما أثار هواجس ومخاوف أبناء المذاهب الإسلامية غير السنّية، علما أن هذه الحركات لم توفر ابنا السنّة بل قتلت منهم الآلاف بذرائع وحجج واهية، والقوى المدنية والديمقراطية الحريصة على الوحدة الوطنية، أطلقت حوارا اجتماعيا يتلمس جذر الموقف وسبل الخروج من هذا المستنقع.

واقع الحال أن الظاهرة ليست جديدة ولها سوابق مؤلمة، فالعالم الإسلامي الذي تكونت فيه الشخصية السورية كان وما زال محكومًا بالثقافة الإسلامية بمكوناتها الثلاثة: العقيدة الدينية، الفقه الإسلامي، التجربة التاريخية، ومع أن هذه المكونات تتطابق في مرحلة وتتمايز وتتباين في أخرى إلى حد التناقض، فقد ظلت تتمتع لدى غالبية المسلمين السنَّة بالقداسة باعتبارها الإسلام، إنها بالنسبة لهم كلٌّ موحد ومتجانس ومتسق، وهذا كرَّسها فكرة حافزة لاستجاباتهم وجعلها مقياسًا ثابتًا لسلوكهم ورد فعلهم على الأحداث والمتغيرات، أو بتعبير غراهام فولر “مقياسًا للعدالة والإنسانية والحكم الصالح ومحاربة الفساد”.

في هذا الفضاء، وتحت هذا السقف، طُرِحت اجتهادات، ونشأت مذاهب فقهية تحولت، مع مرور الوقت، إلى طوائف دينية، طائفة كبيرة، أهل السنّة والجماعة أو السنّة، وطوائف أصغر، ليست متساوية في الحجم، شيعة، علويين، دروز، إسماعيليين…. إلخ، ترتب على مواقفها من بعضها، ومن الأحداث، قيام أحزاب سياسية، بالمعنى الذي أخذته الكلمة في الحضارة الإسلامية أي الولاء لشخص أو فكرة، وانفجار صراعات عنيفة ودامية، عمَّقت الخلافات الفقهية/المذهبية، وكرست انقسامات أفقية وعمودية في الاجتماع الإسلامي، كل هذا أفرز قراءات مختلفة ومتناقضة لأحداث التاريخ وتداعياتها: روايات، وأحكام دينية وأخلاقية، مشاعر وعواطف متضاربة وأحقاد وعداوات، بقيت سارية في ثنايا التاريخ الإسلامي، يضاف إليها في كل جيل تفصيل جديد أو رواية جديدة مشوهة لحدث قديم. تراكمات متواترة بحيث غدا لدى كل منها رواية خاصة بها عن المذاهب والطوائف الأخرى تُشيطنها، وتجعلها في موقع الخارج على العقيدة، وأس الفساد والسبب المباشر لكل المشكلات والصراعات والأخطاء التي شهدها التاريخ الإسلامي، وأصبح كل مذهب منها أو طائفة أو جماعة صغيرة شخصًا اعتباريًّا يرى في ذاته معبِّرًا عن الإسلام مع أنه نشأ بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بعقود، وأن التمذهب به ليس من أصول الدين أو العقيدة، ونال المذهب السنّي غلبةً كونه ظل المذهب الرسمي للإمبراطورية الإسلامية في الخلافتين الأموية والعباسية وغدا الأكثرية العددية ما جعله يعتبر نفسه الممثل الشرعي للإسلام، والمذاهب/الطوائف الأخرى خوارج عليه مع أنها لم تخرج على أصول العقيدة الإسلامية التي حددت بثلاثة أسس: الإلوهية، الرسالة، الميعاد/يوم الحساب أو القيامة، وان الاختلافات الأخرى اجتهادات قد تكون صحيحة أو خاطئة لكنها مشروعة.

مع انقطاع الفعل الإسلامي في التاريخ، وجمود الحضارة الإسلامية، ورسوخ قدم التخلف والانحطاط العقلي والثقافي والسياسي، وتآكل الإنجازات المادية والفكرية، وانكماش التطور الحضري، وعودة المجتمعات الإسلامية إلى حالة من البداوة والترّيف، وسيادة رؤى الحنابلة والأشاعرة والمتصوفة الفكرية والسلوكية، ناهيك عن الحروب الداخلية والخارجية وما نجم عنها من مظالم وخسائر وكوارث اجتماعية، وهزائم عسكرية، وغياب فكرة حافزة تستقطب المسلمين، انتقلت الخلافات إلى عمق الاجتماع الإسلامي، وتسربت المواجهات والمناكفات حتى بلغت القاع الاجتماعي عبر تداول روايات تنطوي على اتهامات وتكفير وتخوين يتم تداولها تعكس حالة خصومة شديدة إن لم تكن عداوة، وزاد في تعقيد القضية تبني الخلفاء والسلاطين لمواقف بعض الفقهاء المتزمتين واستخدام قوة السلطة في البطش بأبناء المذاهب الصغيرة وملاحقتهم وهذا دفعهم إلى التكتل للدفاع والهرب إلى الجبال والصحارى البعيدة، وقد حوّلتهم المظالم والملاحقة والعزلة إلى كتل صماء متقوقعة تتلبس عقلية الحصار، متسترة ومتكتمة ومجهولة المواقف والطقوس، وهذا غذى السرديات المعادية بالروايات والتوهمات عن انحرافهم وجنوحهم وخروجهم على الإسلام والإفتاء باستتابتهم أو إقامة الحد عليهم، وهذا غذى مظلوميتهم وزاد في تقوقعهم وانعزالهم عن المجتمعات الأخرى.   

أدى ظهور الفكرة القومية وانتشارها، ونشوء الدول الوطنية، وبروز الأفكار الحديثة: العلمانية والاشتراكية وتبني أسس حديثة  للدولة، أسس دستورية وقانونية، على الضد من المنطق، إلى زيادة عوامل الفرقة والانقسام، حيث تحمس أبناء المذاهب الإسلامية الصغيرة للقومية، والعلمانية، والديمقراطية، والاشتراكية، والشيوعية، كمدخل للتساوي في الحقوق والواجبات مع الأكثرية السنّية، بينما لم تنظر الأكثرية السنّية، لاعتبارات ثقافية ومصلحية، إلى هذه التحولات والتطورات بعين الرضا، فقد رأت في تبنيها حطًّا من قدر الإسلام وخفضًا في مكانته، فالإسلام في نظرها متفوق ثقافيًّا وسياسيًّا، وهو أكبر من القوميات، والانتماء إليه يتجاوز الأوطان، فالأمة الإسلامية واحدة موحدة.

لم تنجح الدولة الوطنية في جسر الهوة بين مواقف مكوناتها الدينية والمذهبية والطائفية، ناهيك عن القومية والإثنية، فبقي الاندماج الوطني هشًّا وعرضة للاهتزاز والتفكك عند أي تحد، والوحدة الوطنية مرهونة بقوة السلطة وقدرتها على ضبط الحراك الاجتماعي والسياسي أكثر من ارتباطها بالتماسك الذاتي.

مع انفجار الثورة الشعبية جدد النظام الاستبدادي حملته ونشط أدوات دعايته لتوتير المناخ الاجتماعي وتحفيز الهواجس والمخاوف الطائفية، وخطَّط لدفع الأوضاع إلى مسارات حرب طائفية لاعتبارات عديدة أهمها: تحشيد الأقليات بعامة والطائفة العلوية بخاصة حوله وربط مصيرها بمصيره، تخويف المجتمع السوري من الثورة، وتخويف المجتمع الدولي من نتائج انتصار الثورة وأثر ذلك على السوريين من أبناء الأقليات الدينية، وخاصة المسيحيين، في مغازلة للغرب الذي طالما لعب بورقة حمايتهم تغطية لأطماع استعمارية، وسعى للاستفادة من المذهبية والعرقية المنتشرتين ليس في سوريا فحسب بل وفي دول المنطقة التي تعاني من انقسامات دينية وطائفية مماثلة(خلال الحرب الأهلية اللبنانية نجحت قوة من حركة فتح باقتحام مدرسة “شملان” التي أقامتها بريطانيا لتعليم سفراءها اللغة العربية وكان من بين موجوداتها خرائط للمنطقة حدد على إحداها انتشار الأديان والمذاهب والطوائف وعلى أخرى مواقع آبار النفط).

لم تنجح قوى الثورة، ولا قوى الأكثرية المذهبية (السنّة) في اختبار مقاومة الاستدراج فانزلق بعض أبنائها إلى موقف طائفي، وراح تحت المعاناة الدامية، والألم الشديد الذي ترتب على وحشية النظام وقواته (الجيش والمخابرات والشبيحة والميليشيات الشيعية التي جاءت من عدد من الدول العربية وغير العربية للمشاركة في القتال إلى جانبه ضد الثورة)، وهول الصدمات التي أحدثتها صور الأطفال والنساء والشيوخ المذبوحين، والجثث الممزقة والممثل بها، والصبايا المغتصبات، راح يهاجم الطوائف الموالية للنظام( العلويون والشيعة والدروز)، والدخول في ردود أفعال سلبية تجاه أبناء الأديان الأخرى (المسيحيون) دون تمييز بين من له دور في الصراع وارتكاب جرائم ضد المواطنين ومن ليس له ذلك.

وقد أضاف ظهور الحركات “الجهادية” بُعدا متفجرا على المشهد الديني والطائفي حيث أثارت البرامج والمشاريع السياسية لهذه الحركات التي ترتكز إلى الفكر السلفي بمنطلقاته العقائدية والسياسية من “الولاء والبراء” إلى إقامة دولة إسلامية، دولة الخلافة بصورتها التقليدية التي تُحكّم الخليفة بالرعية، وسياستها المحكومة بفتاوى فقهاء لا بتوجيهات القرآن الكريم بما في ذلك قتل المرتد ورجم الزاني وقطع يد السارق … الخ، أثارت هواجس ومخاوف أتباع الديانة المسيحية وأتباع المذاهب الإسلامية التي يعتبرها الفكر السلفي مخالفة أو خارجة على صحيح الدين أو منحرفة ويربط قبولها في مجتمع الدولة الإسلامية بعودتها إلى الإسلام، أي الانتماء إلى المذهب السني. وزاد ظهور “النصرة” و”داعش” وممارساتهما الوحشية ضد أبناء الديانة المسيحية (ترحيل السكان وخطف رجال دين ونزع الصلبان عن الكنائس ومنع قرع الأجراس) والمذاهب الإسلامية غير السنية من القتل، مثل جريمة اشتبرق التي راح ضحيتها عشرات المواطنين من أتباع المذهب العلوي وقلب لوزة التي راح ضحيتها عشرون مواطنا من الموحدين الدروز، والذبح والصلب والسبي والتعليق والجلد ومصادرة الأملاك والأموال وفرض مسطرة سلوك على المواطنين كافة يحدد نمط اللباس والسير والسفر ويمنع التدخين… الخ في تعميق وتعظيم هذه الهواجس والمخاوف وفي تصعيد الكراهية والعداء والمفاصلة بين أبناء الشعب الواحد، والدين الواحد كذلك.

لا يمكن أن تبقى نظرة الفقهاء المتزمتين، ولا الصور والسرديات النمطية قاعدة للعلاقة بين أبناء الوطن الواحد والمصير الواحد والمستقبل المشترك، فالمنطق والمصلحة يقضيان بكسر الحواجز والسدود والقيود والعمل على إنهاء ثقافة العزلة والانعزال والتمهيد لاندماج وطني أساسه عقد اجتماعي جديد مبني على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، يفكك الغيتوات وعقليتي الحصار والتكفير والتخوين وينهي سياسة الأقليات المذمومة والمتهافتة والتي لا تليق بجماعة وطنية واحدة، خاصة بعد أن انكشفت أخطارها على البلاد والعباد.

المدن:1/7/2015

Exit mobile version