يتلازم كل من الانهيارين السياسي والمدني في سوريا تلازماً عضوياً، فمع احتلال العسكرة والمظاهر العسكرية لواجهة الأحداث، ومع تحول الحرب إلى أداة السياسة شبه الوحيدة والفاعلة في موازين القوى لدى كل من النظام والمعارضة، وبعد انهيار الإطار الوطني السوري، أصبحت السياسة مثقوبة بالعمالة المتعددة، ومرهونة كلياً للقوى الإقليمية والدولية المتنافسة والمتنازعة، مثلما أصبح المجتمع المدني؛ الضعيف أصلاً، عبارة عن تجمعات أهلية؛ مناطقية وطائفية ومذهبية وقومية، متقوقعة على ذاتها، ولكن مفتوحة على كل أنواع العنف الممكنة والإرهاب الذاتي أولاً، والموجه للخارج، خارجها ثانياً.
الانهيار السياسي يغلق الآفاق القريبة لأي حل سياسي مزمع عقده، حتى لو كان “الحل السحري” صناعة أمريكية أو “رعاية” روسية. والانهيار المدني يغلق آفاق المرحلة الانتقالية و”المصالحة الوطنية” والعيش المشترك، حيث يتحول المجتمع السوري مجبراً إلى مجتمع “هوبزي” من الذئاب التي تأكل بعضها عندما لا تجد ما تأكله في غيرها، ولا تجد مؤسسة مدنية أو سياسية تحميها من طغيان السلاح والميليشيات.
المحنة السورية تكثف وتجمع في صُلبها محنة العراقيين في نظامهم، ثم احتلال الأمريكيين لبلادهم وتمزيقها، ومحنة اللبنانيين في حربهم الأهلية وأمرائها الطائفيين، ثم محاصصاتهم الطائفية في “اللادولة”، ثم دولة حزب الله الإيرانية المسلحة فوق رؤوسهم، والأخطر من ذلك أنها تجمع أيضاً محنة الفلسطينيين في احتلالهم الإسرائيلي، ثم شتاتهم وحقهم المنتهك وغير المعترف به واقعياً بالعودة لأرضهم، ثم محنة تمزقهم على أرض الوهم الفتحاوي والإسلام الحمساوي.
سوريا تُسلَّم مثل العراق إلى إيران الخمينية، وتتقسم هوياتياً وطائفياً وميليشيوياً مثل لبنان، وتعاني اصطفاف العالم “الأول” ضد قضية شعبها العادلة مثل فلسطين. والسوريون يموتون بمئات الآلاف وبمجانية تبز موت العراقيين قبلهم، وينقسمون وجودياً ومذهبياً في اللادولة مثل اللبنانيين قبلهم، ولا يجدون حيلة في الشتات أو الداخل، في أراضيهم “المحررة” أو “المحتلة”، مثل الفلسطينيين قبلهم.
الانهيار السياسي ليس انهياراً للسياسة بوصفها أداة غيبتها الحرب فحسب، ولا انهياراً للبنية والبناء السياسي الذي صنعته الطغمة الحاكمة عبر عقودها الأربعة الماضية فحسب، بل انهياراً للسياسة بوصفها إطاراً يجمع الشركاء في “الوطن”، المختلفين في كيفية إدارته، فالخلاف السياسي بين عُمَّال السياسة في سوريا لم يعد خلافاً سياسياً وظيفياً بقدر ما هو صدع وجودي غير قابل للرأب والجَسر السياسي بسهولة، و”التحزّب” الذي عجز النظام والمعارضة عن إيجاده في سوريا قبل الثورة بوصفه رغبة طوعية وإرادية في الانضمام إلى حزب سياسي، بات تحزباً “طبيعياً” إلى القوى الحربية العاملة في سوريا بناء على الوجود الهوياتي العمودي، لا على الخيار الفردي والإرادة الواعية بذاتها.
في عصر السيطرة الكاملة للنظام على سوريا، كانت السياسة عبارة عن مسح الاختلاف بين السوريين وطرد المختلفين إلى خارج السياسة وتخوينهم -خارج البلد أو داخل المعتقلات- مثلما كانت “الفسيفساء” السورية مختزلة تعسفياً في واحدية التمثيل الذي كانه النظام وحزبه القائد. لم تكن السياسة إدارة للتنافس، بل سحقاً للمنافسين، أما اليوم؛ حيث لم يعد ممكناً سحق المنافسين ذاتياً، فقد أصبح أمر الاستعانة بالخارج لسحق الداخل هو العنوان الرئيس للسياسة في سوريا، والمضحك المبكي هو أن النظام الذي قام جوهره السياسي المعلن على تخوين العمالة للخارج، كان أول من استدعى غير السوريين من الخارج إلى الداخل للمشاركة في حربه على الشعب، لم يتغير الهدف المتمثل بسحق الآخر، بل تغيرت الوسيلة ليس إلا، أما المعارضة التي يُفترض أن تغير الهدف والوسيلة، فلم تنتج شراكة يُعتد بها على مستوى المؤتلفين، فما بالك بشراكة على مستوى سوريا المتصدعة باختلافها.
الانهيار المدني ليس انهياراً للعمران والمدنية والبنى التحتية فحسب، وليس انهياراً للمؤسسات المدنية التي لم تكن مدنيتها منفصلة عن السياسة بأي حال فحسب، بل هو انهيار كامل للمجتمع المدني بوصفه مجتمعاً وسيطاً بين المجتمع الأهلي وبناه العشائرية المنفلتة والمجتمع السياسي وبناه التنظيمية والحزبية.
أين يكمن الضوء؟ وكيف “نربي الأمل”؟ نظن ألا أمل ممكناً خارج إرادة الشعب السوري ذاته، وهذه تنتصب على ركيزتين: الأولى، هي أن الإرهاب والتطرف؛ إن كان دينياً أم “علمانياً” أم قومياً، قد وصل إلى حدوده القصوى، فلا “إسلام التوتر العالي” قابل للاستمرار والحياة والاستقرار، ولا إرهاب النظام التصفوي والعدمي قادر على البقاء في ظل الاستنزاف الهائل لطاقات حاضنته الموالية اختياراً أو إجباراً، لذا فإن الخيار الشمشوني بتصفية الآخر لم يعد ممكناً، والخيار الاضطراري بين قاتلين بات ممتنعاً محلياً وحتى دولياً.
الركيزة الثانية للإرادة هي فقدان الأمل السوري من الدول الكبرى والصغرى، الأصدقاء والأعداء، حيث إن أخطر ما صنعته أمريكا الأوبامية تحديداً، والغرب عموماً، هو تخليها المعلن عن أي مبدأ إنساني أو سياسي أو قانوني أو أخلاقي يمّكنها من التفاضل والمفاضلة مع دول العالم الثالث “المتخلفة” أو حتى عن أي ميليشيات إرهابية محكومة بالجريمة والمصالح الصغرى.
تلك الأسباب بمجملها قد تدفع السوريين إلى قدِّ الأمل من اليأس الكامل، واكتشاف الطريق من الشراكة في الجحيم الذي بات يحرق بناره جميع السوريين الأحياء اليوم، فربما أصاب ألبير كامو جزءاً من الحقيقة في كتابه “الإنسان المتمرد” عندما قال: إنه “من اليأس المطلق تخرج الحرية المطلقة”.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.