من ثنائيّة الذكورة والأنوثة
إلى نِسْيَاقيّة فَصْمِ الذّات والتَّأويليّة المشاعيّة
د. مازن أكثم سليمان
لعلَّ التحليل السابق المُعمَّق للمُؤلِّف يفتتح جملة في المُساءلات والإشارات الضرورية والاقتراحات التي يمكن أن تُغني الرؤى السابقة كما أظن, ولاسيما أنه يتحدث في غير موضع عن أهمية التفريق بين (المنظومة الفكرية) بوصفها منظومة قابلة للمُراجَعة على الواقع والحاملة تاريخ تشكُّلها على أنَّهُ تاريخ أخطائها, والقادرة على مُواجَهة منظومات أخرى والتأثير فيها أو التأثر بها, و(الأيديولوجيا), بمعناها الشائع بما هيَ (منظومة باردة) مُنغلِقة على نفسها في صيغة مذهب أو عقيدة, وهذا التفريق يدفعني إلى الحديث بادئ ذي بدء عن أهمية إجراء مُراجَعة تفكيكية ضرورية للصلات الوثيقة بين سورية (الدولة _ الأمة) غير المُتحقِّقة, وسورية (العروبة _ الإسلام), لا بوصف الثنائية الثانية نقيضاً للثنائية الأولى؛ إنَّما بوصفها عاملاً مُهيمِناً لا يمكن الحسم في مدى القطع التام معه في تأسيس سورية (الدولة _ الأمة), ذلكَ أنَّ قضيتا تسييس العروبة وتسييس الإسلام بما هُما تجربتان أو تجارب (سياسة _ أيديولوجية) صارت جزءاً من التاريخ, وهذا يعني أن نتحاشى فكرة المُطابَقة بينهما وبين العروبة والإسلام بوصفهما جزءاً من الوعي والثقافة السائدة, ويجب ألّا نختزلهما أصلاً في تلك التجارب السياسية, بل ينبغي _كما أعتقد_ أن ننطلق من نقد تلك التجارب وتفكيكها أولاً _كما يفعل الأستاذ جاد الكريم في جانب من كتابه هذا_, وأن ننقل الحوار الوطني السوري في طموحه إلى تأسيس دولة وطنية ديمقراطية حديثة من حقل الأيديولوجيات الجوهرانية المغلقة إلى حقل الثقافة الواسع والمرن والمفتوح؛ إذ إنَّ مُجاوَزة أية تجربة مهما كانت مُخفِقة لا تكون بتوهُّم القطيعة أو الانفصال المطلق الوفي لمفهوم (الحتمية) الذي ينفيه المستوى الوقائعيّ لتجربة الوجود, بقدر ما تكون عبر التفاعل الخلاق و البناء المبدع على ما يُمكن البناء عليه, وهنا تأتي أهمية البحث في مسألة (الفضاءات الثقافية) التي تستطيع أن تتجاوز الثنائية المركزية البطريركية (شرق _ غرب) بأيديولوجياتها التأنيثية النافية للآخَر, وهو الأمر الذي يعني تلازم التفكيكات _كما يدعو المُؤلِّف_، ولاسيما أننا قد نجد أيضاً _كما أرى_ عند هذا “الآخَر الغربي” جرحاً نرجسياً قديماً ومسكوتاً عنه قد يعود في جذوره إلى قرون غابرة انطوَتْ على صدمته الحضارية إزاء تخلفه في تلكَ العُصور عن الحضارة العربية الإسلامية، وهوِ موضوع مُتراكِب ومُرتبِط بتجاهُل التَّيّار الأعمّ في الغرب لدور تلكَ الحضارة في تقدُّمه الهائل!
ويبدو أنه لا مناص أمام هذين التمركزين المُسَبَّقين من البحث عن أسس لقيام مُقارَنة حيوية تواصليّة وتفاعليّة يدعوها أنور عبد المالك: “الجدلية الأصلية للحضارات”. هذا من جانبٍ أوّل, ومن جانبٍ ثانٍ لابد أن يشمل هذا الفعل أيضاً تفكيكَ كافّة الوَحدات الإثنية والمذهبية والطائفية التي تُوَصف بـِ (الأقليات) بوصفها أنماطاً أصولية ليسَتْ مُتفاصِلة معَ الأصولية الكبرى السائدة, بقدر ما هيَ جزء أصيل من الفضاء الثقافي نفسه في اعتقادي، وذلكَ في إجراء ضروري لفَهم العلاقات الداخلية ضمنَ بِنية الثقافة العامّة، والتي تبدو مُتناقِضة أو مُتصارِعة في السَّطح البصَريّ الخارجيّ، ومُتجانِسة أو مُتحالِفة في السَّطح البصَريّ العميق، وهو الأمر اللازم لتحاشي فكرة “الهُوِيّة الكُلِّيّة”, فالثقافة انفتاح على بِناها الداخلية المُتراكِبة, وانفتاح على بِنى الثقافات الأُخرى التي تتشابَك معها في مَراحِلَ مُختلِفة وكيفيّاتٍ ليسَ من السَّهلِ تعيينُها.
وفضلاً عمّا سبَق, أعتقد أنَّهُ من الضروري أيضاً إعمالُ الحفر في الحقبة الليبرالية القصيرة التي عرفتها سورية بعد الاستقلال، لتحرِّي و دراسة بِنى المجتمعات “المدنية” التقليدية, والتي تمَّ تطويع معظمها لصالح المركزية السلطوية التي سادَت في العقود الأخيرة, وأحسَبُ أن دواعي هذا البحث راسخة في صلب تجربة السلطة المستبدة؛ إذ كيف يمكن أن نفسِّر مثلاً كيفية انقلاب الصراع على الفضاء المجتمعي العام بين سلطة حازت الدولة وصادرتها, وسلطات المجتمعات التقليدية المُغلَقة الحائزة لجماعاتها عقائدياً, والمُصادِرة لها كذلكَ, إلى تحالف موضوعي عميق الوشائج, وهو الأمر الذي تحقَّقَ بالتأكيد على حساب نبذ أيَّة إمكانية لانبثاق مجتمع مدني يحتفي بالتعدُّد والاختلاف.
ومن القضايا اللافتة في هذا المضمار أيضاً, ذلك التلاقي الموضوعي بين البِنى التقليدية نفسها _التي يُفترَض أنها مُتنافرة أو مُتناحرة أو مُختلفة عقائدياً فيما بينَها_ وذوبانها في مركزية السلطة العليا التي وحَّدت بينها, على الأقل حتى لحظة انفجار الثورة السورية عام 2011. وهنا لابد من الإشارة إلى أنَّ من أهم أساليب تجذير هيمنة البِنية السلطوية البطريركية في سورية تمَّتْ عبر اكتساب الشرعية بفعل المُماهاة بين مفهوم (الدولة) ومفهوم (السلطة), ليكون هذا التماهي مصدراً من مصادر القوة التي أسست عليها السلطة عملية تأنيث المجتمع ذكوراً وإناثاً، وهو الأمر الذي سنتوسع في مُقاربته في الصفحات الآتية.
إنَّ نقد المَظهر الزائف للحداثة والعلمانية في سورية، ينبغي ألّا ينفصل بحال من الأحوال عن نقد الحداثة الغربية نفسها، تلك الحداثة التي احتفت بسلطة الذات الغربية وقُدرَتِها على التحكُّم بالطبيعة بوصفها آليّة تُمثِّلُ تفوُّقَ مركزية الرجل الأبيض، وتُرسِّخُ نزعتَهُ المُتعالية والقائلة بأحقِّيته بأن يتحكَّمَ بالآخَر الأضعَف (التابع الذي ينبغي تأنيثه في كُلِّ خطاب مركزي)، فالفلسفة منذ عصر التنوير والثورة الصناعية كانت مُوظَّفة لصالح سيادة تقنية العلم بما هي سيطرة مطلقة على الطبيعة والعالم.
*- سوف تنشر هذه الدراسة على أجزاء متسلسلة، وهي مقدمة لكتاب (فخ المُساواة _ تأنيث الرجل.. تذكير المرأة) للكاتب السوري “جاد الكريم جباعي”
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج