جورج كتن
يسعى أبو محمد الجولاني قائد هيئة تحرير الشام، التي تسيطر على المنطقة الخارجة عن سلطة النظام السوري في محافظة إدلب وريف حلب الغربي، لإظهار منظمته الجهادية بأنها تختلف عما تتصورها أطراف محلية وخارجية. فـ”الهيئة” التي كانت تسمى جبهة النصرة والمصنفة على قائمة الإرهاب الدولية، هي أحد فروع تنظيم القاعدة العالمي، عملت على تمايز عن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وكذلك عاد الجولاني وانشق عن تنظيم القاعدة لتصبح “الهيئة” سورية، بلا ارتباط بأي جهة جهادية خارج سوريا.
عمل الجولاني لإظهار أنه تغير في تصريحات واجراءات شكلية، مثل محو أنصاره لشعارات متطرفة من على جدران في إدلب، أو ارتدائه لبدلة، كخروج عما يعتبره المتطرفون الإسلاميون تقليداً محرماً للغرب الكافر. لكنه في حديثه المطول الأخير مع صحفي أمريكي ركز أكثر على تميزه عن المنظمات الجهادية، وبالدرجة الأولى أن المنطقة التي يسيطر عليها، وتضم 5 ملايين نسمة، لا تشكل تهديداً لأمن أوروبا وأمريكا وللمجتمع الغربي عموماً، ليقول إن “الهيئة” لا ولن تنفذ عمليات خارجية، وهي ضدّ قتل المدنيين الأبرياء في أي مكان بالعالم، وأنه حتى عندما كان في منظمة القاعدة كان يعارض العمليات الخارجية، وأن هذا كان موقفه في 11 أيلول، عندما هاجمت القاعدة برج التجارة العالمي في نيويورك، رغم أنه لم يخف “سعادته”! لضرب أمريكا التي يعتبر أن سياستها في الوقوف إلى جانب الصهاينة ضدّ المسلمين، ومع الأنظمة الطاغية ضد شعوبها، هي سياسة خاطئة، ينتقدها دون قبول قتل المدنيين الأبرياء كما حدث في “غزوة نيويورك”.
أراد أن يقنع الغرب باعتدال “الهيئة” لرفعها من قائمة الإرهاب العالمية، رغم أنه دافع عن العمليات الاستشهادية على أنها وسيلة وليست غاية بحد ذاتها، ولكنه نفى استهدافها للمدنيين!
ورأى الجولاني أنه يمكن تطبيع العلاقات مع الغرب والتلاقي حول قاسم مشترك، هو وقف تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا، ووضع حدّ للأزمة الإنسانية في سوريا؛ فالسوريون في منطقته يحتاجون لكل شيء، الماء والدواء والغذاء والكهرباء. وحتى إنه طالب بالتنسيق مع الأمم المتحدة في هذه المجالات. كما اعتبر هيئته جزءاً “كبيراً”! من الثورة السورية ضد حكم ظالم، دون أن يوضح ما طبيعة الحكم الذي يحبذه فيما إذا سقط النظام.
دافع عن الشريعة الإسلامية التي يتبناها فقط من زاوية أنها تقبل بوجود تجمعات من ديانات ومذاهب مختلفة عن الإسلام، وأن تطبيق الشريعة لا يعني استبعادهم. واكتفى بمدح الشريعة بالعموميات بأنها “عادلة”، دون الخوض في الدفاع عن تمييزها مثلاً ضد المرأة، أو ضدّ الطوائف الأخرى، التي رغم عدم استبعاد أفرادها فهم في ظل حكم الشريعة مواطنون من الدرجة الثانية. كما لم يتعرض لتكفير الشريعة، كما يفسرها عادة الجهاديون، للديمقراطية وتحليلها قتل الذي يغير دينه “المرتد” وغير ذلك..
كما نفى الجولاني تصفية الفصائل المسلحة التابعة للجيش الحر لتأمين هيمنته الكاملة على المنطقة، بل إنه صفاها باعتبارها مجرد عصابات لصوص وقطاع طرق! وهي بالإضافة لتهم التبعية لداعش أو العمالة للنظام أو لروسيا أو التحالف الدولي أو شتم الذات الإلهية، تهم يمكن أن توجه لأي معارض ضمن منطقته لتكون حجة لتصفيته.
كما نفى وجود التعذيب والمعاملة الوحشية في سجونه المتعددة، ومنها سجن العقاب في جبل الزاوية وسجن حارم وسجن إدلب المركزي. كما تجاهل الإعدامات دون محاكمات والدفن في مقابر جماعية التي وثقتها منظمات حقوقية.
حتى إنه نفى أن لديه سجون كـ”هيئة”!! فهي جسم عسكري بحت، فيما السجون تابعة للجهات المدنية “حكومة الإنقاذ” والجسم القضائي، وكأنها هيئات مستقلة وليس هو الذي عينها كهيئات صورية تتلقى أوامرها من قيادات “الهيئة”.
ولم يكتف الجولاني بالهيمنة العسكرية من خلال تصفية من يعارضه أو لا يتحالف معه، ولا بالهيمنة السياسية من خلال تعيين حكومة إنقاذ تتبع لسلطته، بل طال الأمر الهيمنة الاقتصادية حيث وضعت “الهيئة” يدها على جميع الموارد الاقتصادية في المنطقة وطردت المنافسين، فاحتكرت المحروقات ومقالع الحجر والتجارة الخارجية، وافتتحت المطاعم والمنتزهات والمولات.. ما جعلها التاجر والصناعي الأول في المنطقة.
هل ستعتبر التصريحات وبعض الإجراءات بالنسبة للغرب والعالم على أنها تغيير في سلوك “الهيئة”؟
سيكون الجولاني ومن يواليه سذجاً إن ظنوا أنها ستغير من نظرة العالم له أو لمنظمته، فتشطبه من قائمة الإرهاب، ويتم الكف عن ملاحقته.
ما يجري لن يعتبر أكثر من محاولة تلميع لصورته البشعة، وليس تغييراً في العمق لآراء ومواقف الجماعة الموصومة بالإرهاب عن حق، وحتى لو لم تقم بعمليات خارجية، فيما تستمر في عملياتها الإرهابية في المناطق التي تسيطر عليها بقوة السلاح. فلا شيء يضمن ألا يكون هذا موقفاً مرحلياً إلى أن تتمكن الجماعة أكثر.
لن يغير كثيراً من صورة “الهيئة” ادعاء أنها جزء أساسي من الثورة السورية، للاختلاف الكبير بين أهداف الثورة الشعبية التي نادت بالحرية وتغيير النظام الديكتاتوري الأسدي لبناء نظام ديمقراطي علماني، يعطي السلطة للشعب من خلال ممثليه المنتخبين بحرية وشفافية. فإذا كان انتماء الجولاني وهيئته للثورة أتى عن طريق العمل لإسقاط الحكم الظالم، فذلك جزء من أهداف الثورة، ولا يصل إلى إقامة النظام الديمقراطي. فالشريعة التي سيطبقها الجولاني لن تختلف عن النظام الحالي إلا بالشكل؛ حيث سيستبدل استبداداً يعتمد على حكم الشخص بحكم استبدادي آخر يعتمد على نصوص يعتبرها مقدسة، فيما هي غير صالحة للعصر وتتناقض في معظمها مع حقوق الإنسان.
التغيير الذي يمكن أن يعتبر حقيقياً، وهو على الأرجح شبه مستحيل، يبدأ بتبني إقامة نظام ديمقراطي مدني كبديل عن النظام الاستبدادي الأسدي، ليبدأ تطبيقه بقدر ما تسمح به ظروف المواجهة العسكرية في منطقة إدلب وغرب حلب، وبإطلاق سراح جميع معتقلي الرأي في سجون الهيئة، والسماح بتشكيل الأحزاب والتكتلات السياسية والنشاط السياسي بحرية ودون قيود في كافة أرجاء المنطقة، والكف عن ملاحقة معارضي “الهيئة”، وتشكيل مجلس إداري محلي انتقالي يمثل كافة الأطراف السياسية إلى أن تسمح الظروف بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، يمثل مواطني المنطقة في المفاوضات مع الأطراف الأخرى من أجل حلّ سياسي في سوريا حسب القرارات الدولية.
لتغيير حقيقي، لا بدّ أيضا للـ”الهيئة” أن تكفّ عن تطبيق الشريعة فعلاً أو المطالبة بتطبيقها، لكونها غير صالحة للعصر، ولتعارضها مع حكم الشعب وممثليه المنتخبين. فحاكمية الله التي يروجها الجولاني وأمثاله من منظمات الإسلام السياسي نظرية خيالية، تعطي السلطة لمن يدعي أنه يمثل الله على الأرض، ونتيجتها حكم استبدادي لقلة مما يسمى “علماء” تتستر بالنصوص، وتقيم استبداداً مماثلا للاستبداد الأسدي، وقد يكون أسوأ منه. ومن أمثلتها نظام دولة البغدادي الداعشية المنقرض، ونظام ملالي إيران الإسلامي الراهن. كما لا بد من إنشاء جسم قضائي مستقل من قضاة مدنيين، لا من “شرعيين” كما هم حالياً، لتكون أولى محاكماتها لجميع مرتكبي جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية، لأي طرف انتموا.
بدون مثل هذه التغييرات الحقيقية لن تفلح عملية تلميع الجولاني و”هيئته” لصورتهم أمام المجتمع الدولي والإقليمي والمحلي. وسيكون الجولاني كمن يضحك على نفسه أو يخادعها، فيظن أنه بمثل هذه المسرحية يمكن أن يزيل اسمه واسم منظمته من قائمة الإرهاب وما يتبعها من ملاحقة.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج