أحمد برهو
يعيش الشعب السوري اليوم في المناطق السورية جميعها، ضائقة اقتصادية واجتماعية كبيرة تصل إلى مستوى الكارثة الإنسانيّة، فيما تزداد الضائقة أكثر على مناطق الشمال السوري، التي تتعرض منذ عشر سنين للقصف اليومي من قبل النظام السوري وحلفائه، إضافة إلى خضوع تلك المنطقة لفصائل مسلّحة كسلطات أمر واقع، وغياب القوانين المدنية الناظمة، فيستعين أهالي المنطقة بالثقافة الإسلامية كبعد قانوني/ شرعي لإدارة العلاقات الاجتماعية والمالية، ومن بينها مسائل الزواج والطلاق.
قريباً من الشمال السوري، في ولاية كلّس التركية، ثمة نظام حقوقيّ لا يسمح بتعدد الزوجات، يخضع له السوري المهاجر كضيف في الأراضي التركيّة، وقد يكون هذا السوري من منطقة اعزاز السورية، والتي لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن كلّس. اعزاز التي تمّ قبل مدة وجيزة الإعلان من إحدى مخيمات النازحين فيها، عن افتتاح مركز لـ (تعدد الزوجات)، وسط تفاعلات متباينة للشعب السوري، عبر وسائل التواصل الاجتماعي. تفاوتت التفاعلات بين تأييد للفكرة، وبين رفضها.
أما المؤيد فغالباً ما كان يبرّر موقفه بالاستناد إلى نصوص دينية، أو إلى وجهة نظر (واقعيّة) في التعاطي مع مسألة كثرة عدد النساء اللّواتي فقدن المعيل، في إشارة إلى شهداء الحرب، قياساً إلى عدد الرجال في بلد يعاني أهله من ويلات الحرب.
أما المعارضون لفكرة تعدد الزوجات فهم من فئة غير المتدينين غالباً، مستندين في وجهة نظرهم إلى ضرورة احترام حرية المرأة، المقموعة من قبل الرجل!
فيما طرح عدد قليل نسبياً النهج الليبرالي في التفكير؛ حيث تناول المسألة من جهة حرية الفرد، ووجوب تمكين المرأة من حريّة خيارها.
وتجدر الإشارة إلى أنّ ثقافة (تعدد الزوجات) بحد ذاتها ليست أمراً غريباً عن المجتمع السوري كخيار متوفر، تجيزه الثقافة الدينية والعرف الاجتماعي، لكن طرحه كمشروع دفع المجتمع السوري للحديث في ذلك على مستويين اثنتين:
1 – لغة بسيطة يشوبها الشكّ تجاه قضايا تمسّ المنظمات والدعم المالي، وحديث عن ذمّة القائمين عليها.
2 – استياء من محاولة تنميط هوية الثورة السورية لصالح قالب ثقافي بعينه، من حيث تسويق حدث (افتتاح جمعية لتعدد الزوجات) باعتباره فعلاً يعبر عن هوية مقاومةٍ لثورة حرية، في حين لا يتفق أصحاب هذا التيّار مع مؤيدي تعدد الزوجات، وتجددت سيرورة الخلاف بين طرفين، أحدهما يرى أن موقفه نابع من هويته الدينيّة، ومن يعارض موقفه سيتعرض لهويته، لا بل سيعارض هوية الثورة!
وطرف ثانٍ سيخلط بين معارضته لموقف الآخر، وبين الإساءة لمعتقد، ضمن إشكال متكرر يبدو أن له أصوله الثقافية.
في سياق دراسة توتر العلاقة بين هوية المجتمعات المحلية وبين هوية الآخر، سنستعين بفيديو انتشر، قبل فترة وجيزة من الشمال السوري أيضاً، للشيخ أسامة الرفاعي، يقول فيه: “هناك نساء من أبناء جِلدتنا، يتكلمون بلغتنا، بل هم من أبناء بلدنا.. يأتون مجندات من قِبل الأمم المتحدة وغيرها.. لينشروا بين فتياتنا ما يسمونه بتحرير المرأة، ما يسمونه بالجندرة…أن تُمكًن المرأة من حريتها، يقولون للمرأة أنت مستعبدة من قبل الزوج، الأب، خذي حريتك كاملة، هكذا شأن الإنسان..”، ثم يصف فيقول: “مجندات من قبل الغرب لإفساد نسائنا..”.
ربما يمكننا ملاحظة النقاط التالية:
توتر العلاقة بين الهوية المحلية وبين هوية عالمية (يسميها الغرب).
مناقشة مفهوم الحرية من خلال علاقة الرجل والمرأة.
في مثل هذا السياق يتحدث المفكر اللبناني أمين معلوف، في كتابه الهويات القاتلة، عن توتر الهويات المحلية، بعد انهيار النموذج الشيوعي بحسب رأيه، تجاه موضوعة العولمة، وأن هذا التوتر يظهر في صيغة محاولة “إبراز عنصر -واحد- من هويتهم على حساب العناصر الأخرى، وهكذا يصبح تأكيد الانتماء الديني واعتباره العنصر الأساسي للهوية موقفاً شائعاً..” ويفسر تنامي الظاهرة الدينية كمحاولة للتأليف بين الحاجة إلى هوية، ومطلب العالمية، في ظاهرة يسميها المعلوف بـ “قبائل كوكبية”.
لكن وفي مستوى آخر من التوتر الهوياتي يحدثنا معلوف عن توتر دولة كفرنسا بعمقها الحضاري، من توجه أمريكي يريد فرض الهويّة الأمريكيّة كنموذج وحيد لهوية عالمية واحدة في إطار ما يسمّى بـ “العولمة”.
لذلك سنتناسى آنيّا مهاجمة الشيخ الرفاعي للنماذج الأخرى “الغربية” لنركز على موقفه من الحريّة ذاتها: يقول الشيخ: “يقولون للمرأة أنت مستعبدة من قبل الزوج، الأب، خذي حريتك كاملة، هكذا شأن الإنسان..”.
فهل يمكننا نفي مقالة الشيخ من حيث وقوعها أو عدم وقوعها بالفعل؟
في كتابه (الوعي الجمالي) يميز د. سعد الدين كليب بين وعيين جماليين: “كلاسيكي وحداثي”، بحسب د. كليب؛ حيث يعتمد الوعي الحداثي منظومة “التجادلية” التي ترى العالم في “وحدته القائمة على التناقض والصراع” ومن ثم الباعثة على “التميز والحرية والحيوية”.
إذاً فأزمة الهوية هي أزمة مركبة على أكثر من صعيد؛ بداية من تعريف الأسرة ضمن النسق الفكري (كلاسيكي/ حداثي)، وانتهاءً بعلاقة الهويات المحلية بالعولمة، لذلك فأن نمطية التجادلية الحداثية الناظمة للعلاقات.. والأسرية منها، لا تسمح لنا أن نقول للشيخ: أنت لم تقل الحقيقة، لأنّ جملة الخطاب الثقافي الحداثي يقول ذلك بالفعل، إلا أنّ المنطق الحداثي يراعي صياغة القوانين الناظمة للعلاقة الزوجية ضمن الأسرة الواحدة، بحيث تدعم تلك القوانين استقلالية كل من طرفي الحياة، وتدير السلطات العامة هذه المصالح المتشابكة.
فيما يشير واقع الحال إلى أنّ الشمال السوري لا يخضع، مع الأسف، لسلطة القانون، ولا سلطة مركزية تدير مصالح الأطراف فيه، فضلاً عن عدم امتلاك المنطقة لأدنى مقومات الحياة، وهذا ما يجعل، ربّما، من عمل المنظمات التي تسعى في برامجها إلى إقرار نموذج حقوقي عالمي عملاً قد لا يكون منتجاً.
وفي حين يمكننا معالجة جملة: “خذي حريتك كلها”، بالقول: إنّ من الطبيعي أن يحصل كل إنسان على حريته كاملة، وهذه ليست منحة تقدمها المنظمات، بل هو حق طبيعي، بحسب ما جاء في المبدأ الثالث لحقوق الإنسان: “لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه”.
لكن بالمقابل فإن منطقة كالشمال السوري، تتعرض يومياً لقصف النظام وحلفائه، وتستنجد منذ عشر سنوات بالأمم المتحدة، وبالغرب، لإيقاف إماتة الرجال والأطفال والنساء.. إن مزاجا لشعب يعيش خيبة عدم استجابة الحضارة لأولى شعاراتها: (حرية الحياة)، إضافةً إلى عدم شعوره بالأمان، هذه الأزمات وغيرها تجعل من الصعب الحديث مع هذا الشعب عن وجوب توخي دقة مفاهيم تالية كالحرية. فضلاً عن الحديث معه في مستوى أكثر عمقاً كالجندر!
لنحاول أن نكون منطقيين أكثر سنعترف بالفشل، لقد فشلت الحضارة في (الشمال السوري)، وإنّ الحديث عن (تعدد الزوجات) هو حديث من مستوى الفشل الذي يعاني مأساته الشعب السوري؛ كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً على صعيد واحد، إلا أن الاستثمار في قضاياه الوجودية لتعميم هويّة جمعيّة للشعب السوري، أو لثورته، أمر غير أخلاقي، بحال من الأحول.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج