هل يسمح لي أصدقائي أن أحدثهم عن رزان زيتونة من جديد؟ فأنا لا أملّ من الحديث عنها لأنه حديثٌ في الثورة، فمن أفضل من (سيدة الحرية) في التعبير عن الثورة وتمثيلها؟
أنا لم ألتق برزان زيتونة في حياتي مع أني كنت أعيش في دمشق بين الأعوام ٢٠٠٢ و٢٠٠٨، فالأمر ببساطة أني لم أشتغل بالسياسة ولم أتواصل من أولئك الشجعان الذين تنتمي إليهم رزان زيتونة، والذين كانوا يحاولون خلق مجتمعٍ مدني سوري فاعل وواعٍ رغماً عن قمع النظام.
في تقريرٍ لها عام ٢٠١١ وصفت وكالة رويترز رزان زيتونة بأنها تنتمي إلى، “جيلٍ جديد من النساء العلمانيات المدافعات عن حقوق الانسان اللاتي سعين الى ملء الفراغ بعد أن سجن الأسد مئات الشخصيات المستقلة والمعارضة للقضاء على المعارَضة لحكمه.”
كما نعتت الوكالة رزان بأنها، “ناشطة سريّة داهية،” فقد كانت رزان في الشهور الأولى للثورة، “تتحرك متنكرة وتظهر فجأة بعد مقتل محتجين وتلقي خطباً تلهب المشاعر.”
حصل تواصلي مع رزان وفريقها وعملي معهم في لجان التنسيق المحلية بعد انطلاق الثورة من وراء شاشة الكمبيوتر، وعبر فضاء وسائل التواصل الاجتماعي. لكنّ الأمر كان أكثر جديةً وخطورة من مجرد التواصل عن بعد. فالأفعال والأعمال التي كانت تلي الاجتماعات الافتراضية لأعضاء لجان التنسيق هي من قبيل أن نخرج مظاهرة مثلاً في صباح اليوم التالي، أو أن نكتب عبارات ثورية معينة على يافطات الاحتجاج، أو أن ندخل مناطق خطيرة لتوثيق جريمة، أو أن نقترب من خط الجبهة لتصوير القصف ونقل الأخبار؛ وهذه الأشياء كلها قد تجعل صاحبها يذهب ولا يعود، أي أن يموت أو يُعتقل. هذا هو ما كانت تشتغل فيه رزان وأعنّاها نحن الثوّار وشباب التنسيقيّات عليه! أفليس أغلى الأصحاب هم من نخوض معهم غمار المهالك ومهاوي الردى ثم نكون أوفياء لبعضنا البعض عبر ذلك كله؟
أريد أن أنقل الحقل الدلالي لاسم رزان زيتونة من النشاط السياسي إلى الثورة، فأقول عنها عندما أذكرها “الثائرة رزان زيتونة،” وليس الناشطة أو المحامية. إن رزان تستحق ذلك بجدارة، بل كانت أكثر من ذلك، فقد قادت الثوار الشجعان الذين عملوا عبر عشرات التنسيقيات في مختلف المحافظات ثم قدمت حياتها وحياة زوجها ثمناً لذلك. كما أن إعطاء رزان حقها بالربط بين اسمها والثورة يحررها من تطفل بعض الأدعياء الذين اتخذوا بعد كل هذه السنين من اسمها business ومن الثورة السورية career ثم لم ينجحوا بالوفاء لا لرزان ولا للثورة.
عندما سعيتُ أول مرة كناشطٍ ميداني للانتساب للجان التنسيق المحلية، توجّب عليّ فعل ذلك كفردٍ مستقل، فأنا لم أكن أمثل تنسيقية بلدتي قلعة المضيق التي هيمن عليها السلفيون منذ البداية. ولكني عندما تقدمت بطلب الانتساب لللجان في بدايات عام ٢٠١٢ اصطدمت بأن اللجان طلبوا مني تقديم السيرة الذاتية لسيدة عبر السكايب اسمها (مدام بلو)، وكانت تلك رزان زيتونة متخفيةً بهذا الاسم، كما علمت بعد أسابيع. وجدتُ الأمر غريباً في البداية، فأنا ناشط وصحفي ميداني أظهر على القنوات، وحياتي مهددة بالخطر، ومن المؤكد أني لن أحصل من انتسابي لللجان لا على وظيفة مرموقة، ولا حتى على حياة سعيدة! فقد كنت طريداً في الجبال وكان الموت محيطاً بنا من كلّ جانب. كل ما أردته أن أجد من يساعدني على أداء دوري والانتقال من المحلية للعالمية في مخاطبة الرأي العام من داخل سوريا، وهو أمر كان السبيل إليه الانضواء في فريق رزان. كما أني كنت معجباً بالرؤية الوطنية التحررية العلمانية التي طرحتها لجان التنسيق، ورغبت أن أعيش ثورتي الخاصة وفق تلك الرؤية وتحت مظلّتها، حتى وإن باعدتني المسافات عن رزان وفريقها، فقد كنت مستقرّاً في جبل شحشبو وكانت رزان والفريق في دوما قرب دمشق.
لكن المدام بلو فاجأتني بدماثتها واحترامها بعد أن قدّمتُ لها السيرة الذاتية. فقد تمتّعت رزان بغريزةٍ قيادية سليمة جعلتها تفهم كيف تستثمر طاقات من حولها وتقدرهم. لقد وافقت على ضمّي إلى اللجان على الفور كعضوٍ مستقل، حيث تم تكليفي بمهمة الناطق الرسمي لمحافظة حماه، ومتحدث عام في الإعلام العالمي، كوني أتقن الانكليزية. كما كلفتني مدام بلو (رزان زيتونة) بالانضمام لجهود تحرير مجلة (طلعنا عالحرية) كوني كنت قد كتبت عدة مقالات ناجحة بالانكليزية لموقع أمريكي يحمل اسم (أصوات من الشرق الأوسط.)
كانت لجان التنسيق المحلّية تُقاد في الأغلب من مجموعةٍ عظيمة من السيدات السوريات: رزان زيتونة، ليلى الصفدي، علا البرازي، ريما فليحان … ومعهنّ عشرات النشطاء والناشطات الشجعان على امتداد التراب السوري.
كان العمل باللجان يتطلب تنظيم المظاهرات، والاتفاق على توحيد الشعارات، والظهور على القنوات العربية والعالمية، وطباعة مجلة طلعنا عالحرية وتوزيعها، ونقل أخبار الداخل السوري للعالم … الخ. والأهم من كل ذلك أن رزان وفريقها المساعد من السياسيين والحقوقيين تكفّلوا بتقديم الرؤية السياسية لنا نحن النشطاء الثوريين الذين لم ننخرط يوماً بالسياسة والعمل السياسي، فشكلت لجان التنسيق المحلية بالنسبة إلينا ذلك البيت الوطيد الذي حمانا من دعايات التطرف، وأعاننا على كشف دعاة التطرّف ومحاربتهم عندما بدؤوا يجرّون الثورة إلى المجهول.
في كانون الثاني عام ٢٠١٣ اختبرتُ طاقات رزان زيتونة وحجم تأثيرها لأول مرة. فقد تعرّضت للاختطاف من بيتي على يد رجل المخابرات الجوية المقدم جميل رعدون الذي اخترق صفوف الثورة مشكلاً كتائب صقور الغاب. وُضعتُ في السجن الانفرادي في منطقة جبلية نائية وتم إرسال شخص لقتلي داخل السجن، لكن الذي تم تكليفه بالمهمة ارتبك وخاف من ارتكاب الجريمة فاكتفى بإخباري بالأمر وإشهار المسدس في وجهي وتهديدي دون تنفيذ المهمة.
هربتُ من السجن في ليلةٍ دامسةٍ باردة ونجوت من الموت بأعجوبة لأجد العالم كله منشغلاً بالبحث عني بسبب منشور صغير كَتَبتْه رزان زيتونة على صفحتها في الفيسبوك. ذكرتْ رزان بالمنشور قصة اختطافي على يد “الشبيح جميل رعدون،” حسب تعبيرها، محمّلةً الشبيح المذكور المسؤولية عن سلامتي الشخصية. بلغ تأثير ما كتبته رزان أن جميل رعدون نفسه انهمك بالبحث عني بعد أن هربت من سجنه، فقد افتضح أمره كعميل للنظام وأدرك أنه تسرع بخطفي ومحاولة تصفيتي من دون أن يعلم تماسك الفريق الدي أعمل معه وقدرته على التأثير الإعلامي والشعبي ضمن حاضنة الثورة وفي وسائل الإعلام. ولولا تلك الحقيقة لتتبّعني ذلك الضابط بعد هروبي من السجن وقتلني أينما كنت.
لم تُدافع رزان زيتونة عني وحدي، بل دافعت عن الكثيرين قبلي وبعدي. فقد كتبتْ مثلاً عن “طبيب الثورة المخطوف،” الدكتور أحمد البقاعي ابن مدينة دوما قبل أيامٍ قليلة من اختطافها هي وفريقها. استخدمت رزان في الكتابة عن الطبيب المختطف مفرداتٍ ثوريةً شجاعة، ولم يظهر في كلماتها برود المنظمات التوثيقية المحايدة، فكان مما قالت في وصف الدكتور أحمد:
“أحمد من أوائل الأطباء الذين انضمّوا للثورة، ولم يألُ جهداً منذ ذلك الوقت في خدمتها بكلّ ما أوتي من طاقة وإمكانيات.”
القضية بنظر رزان كانت ثورة، وليست حرب، ولا انتفاضة، ولا مقتلة، كما يصفها بعض “نشطاء” اليوم.
كما دافعت رزان قبل الثورة عن السجناء السياسيين عند النظام، بمن في ذلك السلفيين أنفسهم المتهمين بخطف رزان وإخفائها، فقد ركزت في عملها كمحامية في مكتب الأستاذ هيثم المالح على قضايا حقوق الإنسان والإخفاء القسري في السجون السورية.
في شهر نوفمبر عام ٢٠١٣ غادرتُ سوريا مجبراً بعد أن كثر المطالبون برأسي من عملاء الأمن، والمتطرّفين من أتباع حركة أحرار الشام وجبهة النصرة وداعش؛ وهي تنظيمات انتشرت كالسرطان الخبيث في جسد الثورة. في تلك الفترة وعندما وصلتُ أنا إلى اسطنبول كتبتْ رزان زيتونة مقالاً حزيناً عن الثوار والنشطاء الذين قُتلوا أو اختطفوا أو غادروا البلاد تحت تأثير عملاء الأمن والجماعات الإرهابية. وقد ذكرتني في ذلك المقال بما يشبه النعي فكتبت:
“خلال الشهر الماضي فقط، غادر أكثر من عشرة نشطاء مناطقهم عابرين الحدود إلى تركيا، من الرقة وحلب وريف حماه، بينهم أعضاء تنسيقية شباب الرقة، والناشط المعروف مصعب الحمادي، وزميل في مركز توثيق الانتهاكات في حلب.”
وأضافت رزان تصف حالنا بعد أن اضطررنا لمغادرة البلاد:
“يشعر هؤلاء بالمرارة الشديدة لأنهم استطاعوا سابقاً الصمود في وجه إرهاب النظام لنحو سنوات ثلاث، لكن التضييق عليهم في المناطق المحررة إلى درجة التهديد بالخطف والتصفية، وعجز الجيش الحر عن حمايتهم من تلك التهديدات، سد أمامهم جميع المنافذ وأجبرهم على الرحيل.”
لم تكن رزان تعلم أنها تكتب نبوءة تخصّها وأنها ستتعرض للاختطاف هي نفسها بعد أسبوعٍ واحدٍ من نعيها لرحيلي ورحيل باقي الزملاء. بدا الأمر في تلك الفترة كما لو أنّ إرادات شرّيرة قررت تصفية الثورة عن طريق خطف النشطاء العلمانيين وقتلهم، أو تطفيشهم إلى خارج البلاد في أحسن الأحوال، لتسهيل تحويل ثورة الكرامة إلى مهرجان طائفي، وسيرك جهادي سنّي شيعي. وبالتوازي، كانت إدارة أوباما في واشنطن منشغلةً بتقديم الإغراءات لإيران للتوقيع على الاتفاق النووي، بما في ذلك تقديم سوريا لملالي طهران على طبقٍ من ذهب.
المصدر: فيسبوك
خرّيج قسم اللغة الإنكليزية – جامعة دمشق. حاصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة البعث في حمص، كاتب ومترجم من أعماله:
الفارس المزيّف- مجموعة قصصية.
أمريكا الامبريالية- (ترجمة عن الانكليزية)
عمل خلال الثورة السورية ناطقاً باسم لجان التنسيق المحليّة ومراسلاً لقناة أورينت وموقع كلّنا شركاء.
وفي عام 2014 عمل مراسلاً في وكالة مكلاتشي الأمريكية من اسطنبول.
يقيم الحمّادي في فرنسا منذ أواخر عام 2019 ويعمل ككاتبٍ وصحفي مستقلّ.