عبد الله شاهين
لطالما تساءلت في خاطري عن مآلنا نحن السوريين ما بعد سقوط النظام واستقرار أوضاع البلاد، أَنَتَصَوْمَل (من نصير على خطى الصومال عقب حربها الأهلية) أم نَتَأَلْمن (نسير على خُطا ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية)؟ أنشهد مرحلة إعادة إعمار مزدهرة تنقل الدولة إلى اقتصاد ما بعد العهد الصناعي، أم نجد أنفسنا تحت رحمة المنظمات الدولية دون وجود تنمية حقيقية وأسس إعادة بناء قوية؟ لا شكّ أن التنبؤ بهذا المآل أمر عويص، كونه مرتبط بعوامل معقدة ومتشابكة، وتجاربنا اليوم ترينا أننا أمام تحدٍ بالغ الصعوبة ولا حلّ في الأفق.
العامل الحاسم في كل تجارب إعادة الإعمار (عقب الحروب والكوارث) حول العالم لم يكن وجود خطة “مارشال” اقتصادية، ولم تكن القروض الدولية الميسرة أداة تفعيل أو تثبيط حقيقي للاقتصادات التي في طور التعافي، لقد كان العامل البشري على الدوام أكثر العوامل التي يمكن من خلالها التنبؤ بمستقبل الدول المتعافية. بل أكاد أجزم بأنه هو العامل الحاسم في هذه المعادلة. ذلك العامل البشري مرتبط بمعيارين أساسيين هما: استعداد هذا الشعب من الناحية التدريبية والتعليمية والتقنية، والآخر هو وجود صيغة اجتماعية تربط هذا الشعب بعضه ببعض، وتربط الأرض الجغرافية بأرضية اجتماعية مشتركة بينهم.
إذا ما نظرنا إلى المعيار الأول نجدنا أمام واقع مظلم، قامت منظمة Save the Children بدراسة الواقع التعليمي للسوريين في الشمال السوري عام 2019. وجدت هذه الدراسة أن 2.45 مليون طفل سوري -أو واحداً من كل ثلاثة- لا يذهبون إلى المدرسة. بل ولاحظوا كذلك انخفاضاً في عدد طلاب المدارس التي يديرونها بمقدار الثلث؛ من أكثر من 11200 إلى حوالي 7775 طالباً. تصبح المأساة مضاعفة عندما نعلم أن هؤلاء الطلاب -الذين باتوا خارج دائرة التعليم المدرسي- لم يذهبوا إلى مهن يدوية أو حرف صناعية، بل إن الكثير منهم يعملون في تجميع النفايات والخردة أو التسول أو في المزارع، أو يجلسون في بيوتهم وخيامهم..
هذا الحال ليس طارئاً ولا قصير الأمد، نحن الآن نقارب من دخول العام الحادي عشر منذ انطلاق الثورة السورية وبداية هذه التغريبة.
دراسة أخرى من عام 2017 وجدت أن هنالك أكثر من مئة ألف طالب سوري جاهز للدراسة الجامعية وليس له مقعد دراسي ولا منحة. هنالك إذاً انقطاع كامل عن التعليم لثلث أطفال سوريا، وغياب شبه كامل لسبل إكماله لمئات الآلاف منهم، حتى وإن تمكنوا من إتمام التعليم المدرسي.
أما واقعنا من ناحية المعيار الثاني فلا يقل سوداوية، فأكثر من 14 مليون سوري باتوا مهجرين عن ديارهم ما بين نازح ولاجئ. كثير منهم من مر بأكثر من تجربة نزوح خلال الأعوام العشرة المنصرمة، ومازال بلا مأوى أو مستقر. كيف يمكن لأي إنسان أن يبني واقعه أو مستقبله وهو بدون مأوى ولا مستقر؟ كيف نطلب أن يصبح الطفل الذي يسكن في مخيمات مكتظة وقد خرج من التعليم المدرسي أن يكون المعجزة القادمة في العلم أو الفكر؟ حتى وإن فعل طفل منهم بالرغم من كل ظروفه العصيبة فما عسى يفعل الآخرون؟
نحن أمام معضلات كبرى تزيد تعقيد الحلول التي علينا الإتيان بها. نحن أمام فجوة زمنية وتعليمية كبرى تجعل الصدع الذي نريد ملأه كبيراً، بل المصيبة أن هذا الصدع ما زال في طوره التوسعي، ومازالت تنبثق منه تصدعات أخرى.
بالرغم من دخولهما في حروب كبرى طاحنة دمرتهما، إلا أن التعليم والصناعة والطبابة والسكن ظلّ محفوظاً لجزء كبير من مواطني ألمانيا واليابان (باستثناء من تم نفيهم إلى المعتقلات والمحارق في ألمانيا)، وظلّ هؤلاء السكان في أرضهم وبيوتهم، بل وظلت العجلة الصناعية والبحوث العلمية والتقنية غزيرة الإنتاج. نحن اليوم أمام حالة انقطاع كامل عن التعلم والإنتاج والعمل والتطور، فقدنا خلال هذه السنوات العشر الكفاءات البشرية التي كانت لدينا، كما حكمنا على غالبية الجيل القادم بالفشل، ومهما منينا أنفسنا بجمال الإنجازات الفردية لبعض المغتربين السورين -والتي ترفع الرأس دون أدنى شك- إلا أننا ما زلنا أمام مشهد مروع من الفقر والتشرد وضياع المستقبل. ولا حلّ يلوح في الأفق لهذه المآسي المتراكبة والتي تزداد فداحة يوماُ بعد يوم.
الصومال اليوم -والتي جعلنا من اسمها مرادفاً للفشل والتخلف والحروب الطاحنة- تنهض من جديد، وتنفض عنها ركام الحرب، بل وأصبحت قبلة للكفاءات العلمية والمهنية السورية والعربية. أما ألمانيا فهي أكبر اقتصاد أوروبي، وبها أكبر جالية سورية في تلك القارة. الثابت الوحيد أنه لا شيء يبقى على حاله، ولن يزول صداعنا إلى إذا ما قمنا بما يمكننا فعله اليوم، وعلينا أن نركز على أن يكون كل ما يمكن أن نفعله اليوم ليصير سوريوا 2031 بحال أفضل وتكون توقعاتنا لمستقبلنا أكثر إشراقاً مما هي عليه اليوم.
وبعد ثلاثية التشاؤم (لا شفاء لهذه النازفة، الأمل بما تبقى من العمل) في العددين السابقين) هذه سنستعرض ثلاثية الحلول التي علينا أن نعمل بها.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج