وجِدت الطوائف على الدوام، ولكن ليست دوماً بصيغة طائفية! وقد أنتجت الطوائف السوريّة طائفية نوعيّة في سياق ما بعد الحداثة. من هنا علينا التفريق بين الطائفة وبين الطائفية. فالطوائف سابقة على الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة، بينما الطائفية لاحقة على الطوائف بسياقٍ موضوعيٍ وأوهامٍ ذاتيّة. وكذلك التفريق بين الحلول الحداثيّة وبين الحلول ما بعد الحداثيّة. فالحلول الحداثيّة عن طريق الاندماج والمواطنة لم تنجز في سوريّة على مدى قرون، وطرحها الآن بدون نقدها إشكالية مغلقة، لاسيّما مع عدم الالتفات لما أصاب مثل هذه الحلول من تحديدات في سياق ما بعد الحداثة.
وهكذا يولد السوريّون، كسواهم من الناس، في أرضيّة قائمة دونما خيَارٍ؛ أرضيّة مثل الأسرة والعائلة والطائفة والقوميّة والوطنيّة والجنسيّة والزمان والمكان والأرض.. والتفريق هنا بين الطائفة وبين الطائفية هو نفسه التفريق بين اللااختيار، وبين الاختيار.
فالطائفية في سياق مابعد الحداثةِ جديدةٌ؛ إنها تبدو وكأنها “ضرورة” للطوائف لا مجال فيها للحكم الأخلاقيّ، مع أننا نحاكمها أخلاقياً فقط. ولذلك على الحلول أنْ تتجدد وتتموضع في السياق الجديد.
ويتميز سياق ما بعد الحداثة بميزات ست أضفت جديداً على الطائفية بوصفها قائمةً في سياق: الفوضى وتداعياتها في سوريّة. واللا تفاضل بين القيم؛ كقيم الوطنية وقيم الطائفية، وقيم الخير والشّر والجمال والقبح والحق والباطل، لدرجةٍ بات “كلَّه ماشي”. والمظلوميّة الهادفة للمفاضلة بالظلم قياساً بباقي المظلوميّات. والضياع في الاتجاهات والبوصلة وعدم التعيّين للمستقبل، والأنكى من ذلك عدم تعيّين للواقع. والافتراض ودوره في التواصل الافتراضيّ الذي يجعل من الفرد ابناً وبنتاً للشبكة العنكبوتيّة أكثر من كونهما ينتميان لطائفة بعينها. وإرادة الحريّة في كسر القيود والاحتكار وإنتاج الجديد والغريب القائم على التنوع والاختلاف. وهذا ما جعل الطائفية تظهر بإهاب جديد يختلف عن تمظهرها سابقاً.
كانت الحداثة الغربيّة قد طرحت المواطنة والاندماج في ظلّ الدولة الحديثة كحلٍ لمشكلة الطائفية، ولم يستطع العرب عموماً والسوريون خصوصاً تحقيق وعود الحداثة هذه. فتعايش فينا نتاج حقبتين هما ما قبل الحداثة والحداثة. الأولى طرحت الرعوية (راع- قطيع، بدون حقوق، وتراصف طوائف أو إخضاع بعضها للبعض الآخر)، والثانية طرحت المواطنة والاندماج في ظل الدولة الحديثة. فصارت سوريّة دولة “حديثة” بدون مواطنين لهم حقوق، بل رعايا عليهم واجبات السجود للحاكم- الراعي على أفضاله ومِنحِه، وكان قوامها “تساكن الطوائف” في حدودِ جغرافيّة سياسيّة. ولنلاحظ تساكن الطوائف في مقولة “شركاؤنا في الوطن” التي تشي بوجودِ أكثر من فريق متساكنين، ومقولة “الطائفة الكريمة” كذلك!
ومع دخولنا مرحلة ما بعد الحداثة التي تجاوزت الأدب والفن والفلسفة، لتطال العلوم والسياسة والمجتمع، دخلنا في خليط بين نتاج الحقب الثلاث. وصارت الحلول والمشاريع الطافية على السطح السياسيّ تعيد إنتاج مقولات الحداثة من قبل المعارضة لحلِّ مشكلة الطائفية، وهذا ما ينطبق عليه المثل الشعبيّ: “الله يطعمكن الحج والناس راجعة”! وكذلك يمارس النظام أساليب حداثيّة في التدمير والإخضاع. وينسى أو يتناسى الطرفان أنَّه لا حلول حداثيّة لمشاكل ما بعد حداثيّة.
في سياق ما بعد الحداثة تنشدُّ الطائفة أساساً إلى الأصل كبديلٍ للتاريخ والتحول؛ فيتحول هذا الأصل المزعوم إلى طوطمٍ جديد للعبادة والتقدّيس في الطائفية! وتصبح فكرة الأصل في الطائفية ضدّ المكان- الوطن وتتعداه -بمعنى التجاوز والاعتداء- إلى ما بعد حدود الوطن- المكان؛ إلى إيران، تركيا، السعودية، روسيا.. وفي الآن نفسه تعبرُ فكرة الأصل في الطائفية الزمانَ كجوهرٍ ثابت لا يعتريه الباطل من جميع الجهات ولا يتعرض للصيرورة!
هنا يبرز السؤال التالي: لماذا استطاع النظام توظيف الطائفية ولم يستطع السوريون إلغاء الطائفية وتجاوزها بالاندماج والمواطنة..؟ ويبرز السؤال المعكوس كذلك: لماذا لم يستطع السوريون توظيف “التساكن الوطنيّ” لإنجاز الاندماج والمواطنة، واستطاع النظام تحويل التساكن الوطني إلى الطائفيّة؟ طبعاً الإجابات كثيرة، ولكنها لا تأخذ سياق ما بعد الحداثة بعين الاعتبار، وتنظُر للمشكلة لا بوصفها مشكلةً واقعيّة، بل كمشكلةٍ أخلاقيّة قديمة، وحلها معروف ومألوف وقديم أيضاً.
تتجه الطائفية إلى تأسيس مظلوميّتها، وتأسيس مناطق نفوذها، وإلى تقويض فرديّة النفس الإنسانيّة غير الطائفية وغير الوراثيّة وغير الجماعيّة، وتقويض مسؤولية هذه النفس عن فعلها واختيارها، لصالح الاعتداء على مولدها غير الاختياريّ وطائفتها الإجبارية بالولادة. وهذا مما يُقوِّض المواطنة مرةً، وإلى الأبد.
أجل، تتبلور الطائفية بالخوف الوجوديّ على مصير الطائفة المستقبليّ والجمعيّ، وبالحفاظ الحديّ على الأصل الماضويّ المشتق من النسل والنسب والمثل المقدّس.. ولنلاحظ أنَّ ربط الطائفية بالأقليات غير صحيح؛ فطائفية الأكثرية واقعة أيضاً: ففي العراق الشيعة أكثريّة وفيهم طائفية، وفي سوريّة السنّة أكثريّة وفيهم طائفيّة. ومشكلتنا في الطائفية لا في الطائفة، ومغالبة الطائفية هدفنا.
أنْ تكون طائفياً، وأنْ تكوني طائفية، يعني اختيار أمن الطائفة واستقرارها، والعمل على مصيرها على حساب الطوائف الأخرى، وعلى حساب الوطن- المكان و الزمن- التاريخ، وعلى حساب قيم الحداثة غير المتعيّنة وغير المتجددة؛ لتنتصر بالطائفية لقيم ما قبل الحداثة، وللملّة الناجيّة على حساب السوريّين، وللماضي على حساب المستقبل.
لقد كشفت الثورة السوريّة عقم “مبدأ التدخل الإنساني”، وبيّنت محدوديّة “حقوق الإنسان” وحصريّتها، وأبرزت نواقص “الديمقراطيّة”، وأظهرت المصالح التي تتعارض مع مشاريع الاندماج والمواطنة. وما هذه المبادئ والشعارات إلا من سياق الحداثة.
فعلياً وبكلام أخر: لقد أشّرت الثورة السوريّة على حقبة الحداثة، وعلى النُخب السوريّة التقاط الإشارة لتجاوز منجزات الحداثة بالنفي والتخطي والإثبات.
عبءٌ ثقيلٌ مثلث الأطراف ملقى على عاتق السوريّين: 1- تصفية آثار ما قبل الحداثة. 2- إنجاز قيم الحداثة بعد تجديدها. 3- التكيّف مع فوضى ما بعد الحداثة وانعدام القطبية الدوليّة وحالة اللاتفاضل بين القيم..
ويبقى على السوريّين، بعملهم وعلمهم، تقويض الطائفية، وتعيّين المستقبل، الذي يحاول الآخرون تعيّينه بالنيابة عنهم لا بمشاركتهم.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.