مجلة طلعنا عالحرية

تحت التعذيب!

10509695_861414867203883_3336200927305594884_n

“لك الله يا ولدي، ورحمك واحتسبك من الشهداء، واقتصّ لك من الجبناء الظالمين”.

تلك كانت الكلمات الأولى لأمّ سورية فقدت فلّذة كبدها ضرباً وتعذيباً حتى الموت، كان شاباً في مقتبل العمر، طبيب أسنان، بالكاد كان قد انتهى من كتابة رسالة الماجستير التي لم ترَ النور، علّقت عليه والدته آمالها بعد وفاة والده، فهو أصغر أبناءها سناً، وأقربهم إلى قلبها الكبير، ولكن كانت أنياب “زملاءه” المسمومة أقرب إلى قطف أجمل الزهرات في بستان العائلة، فبعد أن قام شبيحة الاتحاد “الوطني” لطلبة سوريا باعتقاله ضمن حرم الجامعة انهالوا عليه بالضرب بواسطة أدوات حادّة، ومن ثمّ قاموا بتسليمه إلى أحد الأفرع الأمنية في دمشق، ليكون الإهمال الصحي المتعمّد في الفرع المذكور كفيلة بموته ألماً بعد تعذيبه، فانتهت حياته بعيداً عن حضن والدته التي لا تملك حتى قبراً له تزورها في الأعياد.

الحالة الوحشية المذكورة آنفاً، لم تكن الحالة الأولى ولا الأخيرة، بل هي واحدة من آلاف الحالات المشابهة التي تمّ توثيقها منذ بداية الثورة السورية لمعتقلين تمّ قتلهم وتعذيبهم حتى الموت على يد أناس ساديين مشبعين في أحايين كثيرة بالحقد الطائفي، يتفننون في أساليب الضرب والتعذيب، تعلّموا العديد منها في عهد حافظ الأسد الأب وأبدعوا واخترعوا بعضها الآخر في عهد بشار الابن، تطول قائمة طرق التعذيب ولا تنتهي، فمن الشبح – التعليق من الأيدي أو الأقدام – إلى الصعق الكهربائي مروراً بالكرسي الألماني والحرق بأعقاب السجائر والاغتصابات الجماعية للمعتقلات انتهاءً بتجويع المعتقل حتى يمسي هيكلاً عظيماً، ولعلّ الصور التي انتشرت لبعض المعتقلين من قائمة الأحد عشر ألف معتقل قتلوا تحت التعذيب غيض من فيض فهي تظهر جانباً واحداً من بشاعة أزلام آل الأسد وحقدهم باتجاه الشعب السوري والثورة السورية.

لربما تكون هذه الوحشية ضد جسد المعتقلين أكثر رحمة من أساليب التعذيب النفسية والإهانات اللفظية المقيتة والكلام الطائفي القذر الذي يتعرّض لها المعتقلون على أيديّ سجّانيهم… ففي إحدى الليالي التي عشتها في فرع المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري في دمشق، وتحديداً في شتاء 2012 القارس، كان عددا من العناصر يتناوبون على ضرب وتعذيب أحد المعتقلين، صراخه كان يصدح في ذلك المكان، وبعد الانتهاء من ضربه طلبوا منه البدء بتقليد أصوات الحيوانات… الكلب… الحمار، وبعد كل عملية تقليد للأصوات كان يتعرّض مرة أخرى للضرب بسبب عم توافق الأصوات التي يصدرها مع الأصوات الطبيعية لتلك الحيوانات!

معتقل آخر في إحدى جلسات التعذيب كان يتمّ استفزازه بطريقة رهيبة عن طريق إهانة عرضه وشرفه والتهديد باغتصاب زوجته على مرأى عينه.

كانت قضية المعتقلين في سوريا – وما تزال – منذ بداية الثورة قضيّة مهملة ومعقدة، وباتت فصولها أكثر مأساوية يوماً بعد يوم خاصة بعيد ارتفاع حالات التعذيب والضرب حتى الموت، فقد ازداد معدّل متوسط شهداء التعذيب من خمسة شهداء إلى أكثر من عشر شهداء يومياً، وهم فقط من يتمّ توثيق أسمائهم من قبل المراكز الحقوقية وعلى رأسها مركز توثيق الانتهاكات في سوريا، وباتت أكثر حالات الوفيات الأخيرة نتيجة الأمراض الجلدية المنتشرة أو التجويع الممنهج والإهمال الصحّي المتعمد، فليس التعذيب الجسدي سبباً مباشراً لموتهم كما في بدايات الثورة، فالبيئة السيئة لأقبية أجهزة الأمن وكثرة الأعداد في الزنزانة الواحدة والإهمال الصحي المتعمّد والحرارة المرتفعة والضغط النفسي وصعوبة التنفس، جميعها كانت أسبابا أخرى من أسباب ارتفاع حالات الموت البطي التي تبدأ في أوقات كثيرة “بالفصل” كما تسمّى في لغة المعتقلات، حيث يصبح المعتقل أشبه بكائن يفقد السيطرة على حواسه وقدراته ويدخل في فترة شبيه بفترة فقدان الذاكرة، وغالباً ما يؤدي “الفصل” بصاحبه إلى الموت المحتّم ما خلا بعض الذين يكتب لهم ولادة جديدة، أحدهم ذكر أنّه كان يتفوه بكلام غريب أثناء الفصل وكان يقضي حاجته في مكانه، وقد أخبره زملاءه في المعتقل بعد شفائه من “الفصل” أنّهم فقدوا الأمل من نجاته لكنّه عاد إلى الحياة مجدداّ بأعجوبة..

أمّا من يحالفه الحظ ويتمّ اخلاء سبيله من الفرع بشكل مباشر – وهذه حالات نادرة الحدوث – أو يتمّ تحويله إلى القضاء بأنواعه يبدأ رحلة جديدة، حيث يبدأ الأهل التقاسم المباشر لمعاناة أولادهم وتبدأ فصول قصص العذابات الجديدة، فمن الاستغلال البشع لبعض “المحامين” الذين يعتبرون “صلة الوصل” مع قضاة محكمة الإرهاب إلى انتظار المعتقل فترات طويلة في الإيداع في انتظار دوره في المحاكمة، إلى اضطهاد سماسرة سجن صيدنايا مروراً بمحكمة الميدان العسكرية، كلها حلقات مسلسل تنذر فيها الأعداد الرهيبة للمختفين قسرياً بكارثة إنسانية حقيقة الآن وفي مرحلة “العدالة” الانتقالية في المستقبل، وتبقي باب التساؤلات مفتوحا على مصراعيه لعدّة جهات دولية ومحلّية، حيث بات المواطن السوري يتساءل عن مدى جدوى ونجاعة هيئات الأمم المتحدة المعنية بقضية المعتقلين وماذا استطاعت أنّ تقدّم بشكل حقيقي في هذا الصدد، وبات معظم المعتقلين والمعتقلات الذين يتمّ الإفراج عنهم يتوجهون بسؤال للمعارضة السياسية: أهذا الذي كنتم به تعدون!

Exit mobile version