الافتتاحيات

تجديد الثورة.. وتجديد أنفسنا

مجلة-طلعنا-عالحرية-Rising-For-Freedom-Magazine

المظاهرات اليوم كأنها خفقة الثورة الأولى من جديد، هذا الكائن أسطوري وهذا العشق أزلي، لا تستطيع إلّا أن تكون مريداً صوفياً في حضرة هذه الثورة، تصطفّ مع عشّاقها جنباً إلى جنب، تضع ذراعيك على صدرك وتنحني برقّة المُحب.. وتدور.. فكلّ طريقٍ منك وإليك كلّ درب..

افتتاحية بقلم إبراهيم الأصيل
الحراك السلمي السوري

الثورة ليست لحظة، وإنّما مسيرة حياة.. هذا ما تأكّد مرّة أخرى مع انطلاق المظاهرات السلمية في أرجاء سوريّا بعد سريان الهدنة وخلوّ السماء من طائرات العنف والموت والدمار التي حاولت بشتّى الوسائل ليّ إرادة السوريين بالتغيير والسعي نحو الحريّة والعدالة والديموقراطية. ولكن ذلك لم يكن الدرس الوحيد الذي جدّدته هذه المظاهرات، فهناك الكثير ممّا يمكننا استخلاصه، وما جرى في يوم 4 آذار 2016 هو دعوة لنا جميعاً للوقوف والتأمّل، في مسيرتنا وأهدافنا ووسائلنا.

فمّما نستطيع ملاحظته بوضوح هو ميل السوريين للوسائل السلمية بطبيعتهم، واستمتاعهم بها وحنينهم لها، لكنّ مستوى العنف الدائر ألغى البدائل السلمية وحصر الطريق بالسلاح، وهنا لا أناقش “العسكرة في الثورة”، وإنّما “عسكرة الثورة ككل”، وحصرها بالسلاح والاستهزاء بأي وسيلة أخرى أو خيار آخر تميل له مجموعة ما. إنّ محاصرة “الخيار السلمي” الضعيف أصلاً من أواخر 2012 وحتّى يومنا هذا كان له آثاراً سلبية على الجميع، سواءً المؤمنين بالعمل السلمي أو المسلّح أو حتّى ممّن يرون ضرورة الجمع بينهما.

شعرنا جميعاً بعودة الثورة مع عودة المظاهرات السلمية، لأن الحراك الشعبي بمفهومه الثوري هو السعي نحو التغيير في سوريا على المستويين الاجتماعي والسياسي، وضياع هذه البوصلة يعني تحوّل كافة الجهود، سياسية أو عسكرية، لبندقية تائهة، قد تقتل صاحبها، أو أهله ورفاقه، كما يمكن أن تقتل أعداءه.

تخفيض درجة العنف تعطي فسحة للمجتمع المدني للعمل، ومساحة للسوريين والسوريات ليعبّروا عن مطالبهم بوسائل مختلفة، بوسائل اختاروها في 2011 وطوّروها مع مرور الوقت، وسيستمرّ إبداعهم ما استمرّ وجودهم، وسيستمرّ وجودهم ما استمرّت ثورتهم. وتخفيض درجة العنف أيضاً سيكون المنفذ الذي ستعبر منه المرأة السورية لتعود عنصراً فاعلاً في حراكنا وحاضرنا وفي عملية التغيير والتحدّي.

المظاهرات السلمية جدّدت هذا التحدّي، على المستوى المدني والسياسي. فأمام الناشطين تحدّي تجديد الخطاب ليكون جاذباً وشاملاً، وتحدّي البحث عن وسائل جديدة تناسب المرحلة وتكون قادرة على التعبير عن مطالب النّاس، دون الاستخفاف بخياراتهم مهما كانت، ودون التحوّل للصدام مع من اختار الخيار المسلّح لأسباب كثيرة ومعقّدة لسنا بصدد مناقشتها هنا. وأمام السياسيين تحدّ للمناورة لإيطال فترة الهدنة والوصول لترتيبات تسمح بالعمل المدني بالاستمرار، فذلك هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة كافة أنواع الاستبداد، السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي.

النظام وداعش والنصرة لم يهدأ لهم بال منذ سريان الهدنة، وما أرّقهم أضعافاً مضاعفة هو رؤية المظاهرات السلمية تعود مرّة أخرى لتغطّي الخريطة السورية، وليس ذلك فقط، بل بأعلام ملوّنة تعكس تلوّن السوريين بانتماءاتهم وأفكارهم، عادت الساحات لتعجّ بالراقصين، وكل رقصة أقسى على داعش والنصرة من ألف معركة، وكل ضربة طبل أقسى على النظام من ضربات المدافع. السبب هو “روح الحياة” في وجه “ثقافة الموت”، وهو الدليل أن كل الصراع الذي يخوضه السوريون اليوم هدفه تأمين حياة أفضل لهم ولأبنائهم، لا الاعتداء ولا الانتقام، وهذا ما تأكّد مجدداً، مؤكداً طبيعة المعركة ووسائل الانتصار.

لن يكون الحفاظ على هذه الفسحة الضيقة سهلاً، فهناك نظامٌ لم تتغيّر نواياه وطبيعته، وهناك متطرّفين أصبحوا يرون سوريا حقّهم وأرضهم، وكل أولئك سيسعون لتغيير الظروف التي سمحت بالعودة للتظاهرات، سواءً بتفجير النزاعات الجانبية والمحليّة، أو باستهداف الناشطين، أو قادة الحراك، وتفادي كل ما سبق يتطلّب تضافر الجهود من الجميع، المنخرطين في العمل المدني وممارسي السياسة وحاملي السلاح في تلك المناطق، لتفادي تحويل الطريق مجدداً وحرف البوصلة.

وفي النهاية، لا شك أن التماس الجمال في هذه الثورة هو ما يساعدنا على الاستمرار، فخمس سنوات والثورة السوريّة تهزّنا، تفاجئ أبناءها وبناتها قبل غيرهم بقدرتها على الاستمرار وتجديد نفسها، بحرٌ موجهُ لا يُحصى وريحٌ لا مبدأ ولا مستقرّ لها، المظاهرات اليوم كأنها خفقة الثورة الأولى من جديد، هذا الكائن أسطوري وهذا العشق أزلي، لا تستطيع إلّا أن تكون مريداً صوفياً في حضرة هذه الثورة، تصطفّ مع عشّاقها جنباً إلى جنب، تضع ذراعيك على صدرك وتنحني برقّة المُحب.. وتدور.. فكلّ طريقٍ منك وإليك كلّ درب..

Click to comment

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

To Top