قاد اعتماد حركات الاسلام السياسي، التي تتبنى ما تسميه “الجهاد” العالمي، اساليب وحشية من تفجير السيارات الى العمليات الانتحارية وقتل المدنيين دون تمييز، باستخدام فتوى التترس التي قال بها الفقهاء دون التزام بشروطها وضوابطها، وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث وسبي النساء والاطفال وبيعهم في سوق نخاسة في عصر الحريات وحقوق الانسان، الى طرح أسئلة عن شرعية هذه الممارسات ومدى ارتباطها بتعاليم الدين الاسلامي وقيمه وتوجيهاته. وهذا استدعى طرح موقف الاسلام الحقيقي في الحروب والقيم التي الزم بها اتباعه في تعاملهم مع الاعداء في ساحة المعركة وبعد انتهائها.
ما موقف الاسلام من القتال وبأي معايير خاضه؟
انطلق الاسلام في تعاطيه مع القتال/الحرب بواقعية فهو، كفعل وحدث، ممكن الوقوع في المجتمعات في ضوء الخلافات وتضارب المصالح والأنفس. الا انه شرّعه لاعتبارات دفاعية في الاغلب والاعم، قال تعالى: “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير”(الحج:39). وأمر بالتوقف عن القتال عندما يتحقق هدفه: ارغام المعتدي على وقف عدوانه، وقال عز وجل:” فقاتل في سبيل الله لا تكلف الا نفسك وحرض المؤمنين على القتال عسى الله ان يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا” (النساء:84). وحدد سلوك المسلم مع غير المسلم المسالم قال جل وعلا: “فان اعتزلوكم وألقوا اليكم السّلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا” (النساء:90)، وذهب عميقا في هذا التوجه السلمي التهادني قال: “عسى الله ان يجعل بينكم وبين من عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم. لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين. انما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على اخراجكم ان تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون” (الممتحنة:7-9). ونهى عن العدوان قال جل شأنه: “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين” (البقرة:191).
ولقد وضع للقتال ضوابط تخفف من وحشيته ولا انسانيته بتحريم قتل المدنيين غير المقاتلين وتحريم قتل الشيوخ والنساء والاطفال، والاعتداء على الممتلكات. فقد حدّد الرسول (عليه الصلاة والسلام) لقادة جنده الحلال والحرام في القتال فنهى عن قتل النساء والاطفال، وعن المساس بالكنائس والاديرة، وعن حرق النخيل او قلع الاشجار او تهديم البيوت او أخذ شيئا الا بثمنه، وحرّم النهب وقال موضحا مدى حرمته: “ان النهبة ليست بأحل من الميتة والميتة ليست بأحل من النهبة”، وحرّم ذبح الانسان كالماشية والتمثيل بالجثث، وحدد قتل القاتل والمفسد في الارض بالسيف (الاداة الحربية لذلك الزمان). ولما عبر أسيد بن خضير عن استغرابه تحريم قتل الاطفال بالقول: “يا رسول الله انما هم اولاد المشركين ذكّره النبي قائلا: اوليس خياركم اولاد المشركين”.
ووفق هذا المنطق تصرف الخلفاء الراشدون ابو بكر وعمر وعلي فقد أوصى ابو بكر قادة الجند قائلا: “لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة ولا تقلعوا نخلا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا الا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له”.
وكان موقف عمر بن الخطاب مما فعله خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة قائد المرتدين في البطاح (قتله بعد استسلامه) ومطالبته الخليفة ابي بكر بإقامة الحد على خالد قرينة حاسمة على موقف الاسلام في القتال وتوسله الاساليب الشريفة والمشروعة في التصرف مع الاعداء.
وكان سلوك علي بن ابي طالب مع الخوارج تجسيدا لتعاليم القرآن الكريم وتوجيهات الرسول في عدم الاعتداء والرد على العدوان عند وقوعه والتوقف عن القتال عندما يتحقق ذلك حيث لم يبادر الى قتال الخوارج حتى بدأوه بالقتال رغم انه كان يعلم انهم يستعدون لقتاله.
وقد ميّز القرآن الكريم بين القتال والقتل، وبيّن الاختلاف الجوهري بين الظاهرتين، فالقتال فعل فيه طرفان بينما القتل فعل من جهة واحدة، طرف يقتل آخر. وقد نظر الى الأول نظرة واقعية واعترف به كما مر اعلاه، وحرّم الثاني جاء في محكم التنزيل: “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” (المائدة:32). وعليه فقد قنن القتل في تشريعه الجنائي في الحالتين الواردتين في الآية: قتل نفس او فساد في الارض، بهدف حماية المجتمع من تفشي العدوان على الانفس والاستهتار بحياة الآخرين.
في ضوء ما عرضناه حول الموقف المبدئي للإسلام من القتال والقتل والتطبيق العملي ايام الرسول الكريم والخلفاء الراشدين تتكشف لا شرعية ممارسات حركات الاسلام السياسي، صاحبة عقيدة “الجهاد” العالمي، وتصنف اعمالها (قتل المدنيين الآمنين، الاعتداء على الذميين، التمثيل بالجثث، الذبح بالسكين، سبي النساء والاطفال، نهب الممتلكات العامة والخاصة) في خانة الاجرام بحق الدين والناس في آن، لأنها تفتئت على الدين وتبرر اعمالها الاجرامية باستخدام اسمه، وتدمر حياة الناس بالقتل والتشريد وتدمير مصادر المعيشة ونهبها تحت دعوى الكفر والارتداد.
في حديث مع عدد من اعضاء احدى هذه الجماعات، وبعد حديث طويل عن اعمالهم واساليبهم، قلت له ان رفع راية “الجهاد” لا تغير من طبيعة اعمالكم الاجرامية فالجهاد محكوم بمحددات القتال السابق ذكرها، ثم ما ذنب المارة الذين يقتلون بسياراتكم المفخخة وانتحارييكم وفيهم مسلمون واطفال ونساء وشيوخ ورجال لهم اُسر وعليهم مسؤوليات يقومون بها لتربية اطفالهم ناهيك عن عملهم لصالح المجتمع، فرد قائلا: “هؤلاء شهادة الصدفة، وسيدخلون الجنة بفضل اعمالنا”. قلت له: “اولا ربما هو لا يريد الموت الآن وبهذه الطريقة. ثانيا ربما يكون من اهل الجنة بعمله ولا يحتاج لمكرمتكم. ثالثا وهو الاهم هذه ليست افكارا اسلامية، بل انها متناقضة مع تعاليم الدين الاسلامي، انت تنتمي، تدري أو لا تدري، الى جماعة المورمون، الكنيسة التي اسسها جوزيف سميث في امريكا في القرن التاسع عشر، فقد كانت تتبنى فكرا يقوم على قتل اتباع المذاهب الاخرى باعتبارهم كفارا، ويعتبرون قتلهم تحريرا لهم من كفرهم وتطهيرا لهم من ذنوبهم وارسالهم الى الجنة مضمخين بدمائهم. جحضت عيناه وتهدج صوته وهم بالصراخ لأنني شككت في عقيدته وايمانه.
*- كاتب سوري.
كاتب وناشط سياسي سوري