يتردد كثيراً في النقاشات العامة، وخاصة خلال الفترة الماضية، مصطلح المظلومية، ويتم تداول هذا المصطلح كمفهوم بديل عن الظلم الذي لحق بفئة أو مجموعة دينية أو قومية أو اجتماعية.
وحسب رأيي هناك خطأ كبير بتداول هذا المصطلح، لوجود فارق كبير بين مفهوم الظلم ومصطلح المظلومية؛ فالمظلومية هي تعبير سياسي، بينما الظلم هو تعبير قانوني. ففيما يمكن الحديث عن ظلم أو عدم عدالة لأي فئة أو مجموعة كبداية لرفع الظلم والتعويض عن الضرر، فإن مصطلح المظلومية يستخدم كمفهوم سياسي، ليس أمام القضاء أو أي جهة قادرة على رفع الظلم، وإنما لشد عصبية وقيادة المجموعة نفسها التي تعرضت للظلم تحت رغبة الانتقام للظلم اللاحق بها، وغالباً ما يستخدم هذا المصطلح قيادات تفرض نفسها على المجموعة، وتقمع كل صوت معارض مستخدمة هذا الشعار كتبرير لجرائمها.
لذلك وحسب رأيي فإن مستخدم مصطلح المظلومية لا يهدف بالنهاية لرفع الظلم عن الفئة التي تعرضت للظلم، وإنما لاستخدام هذا الظلم لتحقيق أهداف أخرى أهمها السلطة. بل ربما يرى أن من مصلحته تعميق هذا الظلم وزيادته حتى يبرر أكثر اسئثاره بالسلطة ويبرر جرائمه. ويقوم مستخدم هذا المصطلح بالتلويح به كأداة ابتزاز داخلية تجاه معارضيه، وخارجية تجاه الأطراف الأخرى غير الجهة التي ألحقت الظلم لتثبيت سلطته وربح مكاسب أكبر.
ويمكن أن نسقط هذا التفسير على الكثير من القضايا والمسائل التي عايشناها، ابتداء من موضوع القومية العربية التي تعرضت، حسب مستخدمي مفهوم المظلومية، إلى هجوم إمبريالي غربي صهيوني قسمها ومنع وحدتها وأبقاها فريسة الجهل والتخلف، ولكن حاملي هذا الشعار الذين استولوا على السلطات ببلدانهم من أجله فعلوا كل شيء إلا رفع الظلم وقيادة بلادهم نحو الوحدة والعلم والحضارة، ارتكبوا كل الجرائم بحق بعضهم وبحق شعوبهم، وحاربوا الجميع إلا من ادعوا أنهم سبب مصائبهم، ومازلنا كشعوب عربية نتباكى على أنفسنا ونحمل مظلوميتنا كقميص عثمان، نحمله سبب مأساتنا ولا نحمل القيادات المجرمة المسؤولية عنها.
وكذلك المظلومية الفلسطينية التي حملتها كل قيادات الدول العربية لتزيد في قمع شعوبها وتثبت سلطاتها، دون أن تحرك ساكناً تجاه المسؤول عن هذا الظلم. والشعب الفلسطيني المظلوم أكثر من دفع ثمن شعار المظلومية من دمه، ومع أن حاملي شعار مظلومية الشعب الفلسطيني هادنوا الجهة الظالمة “إسرائيل” ووقعوا اتفاقات معها، إلا أنهم أبدا لم يهادنوا أو يتفقوا مع رفاقهم من الشعب الفلسطيني، وبقي القتال بينهم دون هوادة.
والظلم اللاحق بالكورد في الشرق، إن كان بسوريا أو العراق أو تركيا أو إيران، استخدم تحت شعار المظلومية لبناء أحزاب منغلقة قمعية حديدية حاربت الجميع وأولهم الأكراد أنفسهم، وكانت أداة بيد الجميع، تخدم أجندات لا علاقة لها بالشعب الكوردي، تحت شعار المظلومبة نفسه، وتحت هذا الشعار تم التلاعب بالشعب الكوردي وبحلمه بدولة قومية، ودفع الشعب الكردي من دمه ومعاناته الكثير. وكذلك في الوقت التي يقوم به حاملي هذا الشعار ببناء هدن وتحالفات مع من ألحق الظلم بالشعب الكوردي، فإنه لا تتم المهادنة أو الاتفاق مع الأكراد الذين يعارضون هذه الأحزاب، ووجهت بنادقها وجهودها ضد الجميع إلا الجهة التي ألحقت الظلم بها.
وحكاية الظلم الذي لحق بالعلويين في سوريا بمرحلة ما من الزمن، حسب ما يشعر العلويون، استخدمت كشعار مظلومية لتسلط فئة من العلويين على السلطة في سوريا، وتحت هذا الشعار تم قتل وتهجير الشعب السوري، وتدمير سوريا انتقاماً لهذه المظلومية المفترضة، وحتماً كان الانتقام من العلويين المعرّضين لهذه السلطة أشد وأقسى، بسبب أنهم من المظلومين أساساً ويتوجب عليهم الانصياع، وحتماً لم تقم هذه الفئة أبداً برفع الظلم عن الطائفة المظلومة، بل عمقت إحساسها بالظلم، بل زادت من ظلمها، إلا من انصاع والتزم معها بشكل كامل وأصبح وقوداً في مشاريعها السلطوية.
والمظلومية الشيعية في العراق أثناء حكم صدام حسين جعلت نظام الملالي المجرم بطهران ينتقم بأبشع صورة من البيئة السنية التي لا ناقة لها ولا جمل بهذه المظلومية، بعدما وضع يده على السلطة ببغداد.
والمظلومية الشيعية في لبنان كذلك جعلت من حزب الله يضع يده على كل مقدرات لبنان، وقمع وقتل وهجر كل معارضيه وخاصة من الشيعة أنفسهم.
شعار المظلومية هو شعار يهدف للانتقام للظلم، ليس برفعه بل بإلحاق ظلم أكبر بالآخرين. وليس بالضرورة أبداً أن يكون بحق الجهة الظالمة، بل غالباً لا يكون كذلك، بل غالباً يكون هذا الانتقام من جهات أخرى لا علاقة لها بهذا الظلم.
شعار المظلومية الذي حملته القيادات السياسية والقومية والدينية والطائفية لتجييش الناس هو من أوصل الشعب السوري لهذا الوضع، ودفع بالاحتقان إلى مستويات عليا.
يجب العودة إلى معالجة الظلم بالعدالة وليس بظلم الآخر، وما دامت أبواب العدالة مغلقة، فدعوات الانتقام ستظل ترفرف وتستدعي الدماء، وأول الخطوات محاكمة المجرمين وإعادة الاعتبار للحقوق.
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، محرر قسم حقوق الإنسان والمجتمع المدني في مجلة طلعنا عالحرية