مجلة طلعنا عالحرية

بين الدولة في اللغة والدولة في الجغرافيا

الدول المتنفّذة بحاجة إلى مدى كبير من الاستقرار في مناطق وإقليم مصالحها الحيويّة كما تفهمها، ومثله من الفوضى كي تستتب لها الأمور. والنُخب المتنفّذة في داخل الدول تحتاج إلى هذه المروحة من الحالات بين استقرار وفوضى كي تفرض سؤددها وتتحقّق لها مصالحها. إذ لم يكن كلّها فمعظمها، وإن لم يكن مُعظمها فجزء منها.
هذه هي عمليًّا قوّة الدفع التي ترسم الأوضاع داخل الدول وبينها: الإرادة السياسيّة والعسكريّة التي تضمن المصالح وحميها. أمّا مفهوم الدولة بوصفها سلطة قانون وعقدًا اجتماعيًّا، فهي أقلّ أهمّية للقوى المتنفّذة، وإن كانت في منتهى الأهمّية بالنسبة للمواطن الفرد.
هذا ما يُمكننا أن نخلص إليه من رصد للتحوّلات في مفهوم الدولة، وتلك التي تشهدها العلاقات الدولية الآن وفي الماضي. كلّما ابتعدنا عن “نواة الدولة” و”فكرتها” الأولى في العصر الحديث -وكان ما يُشبهها في العصور الأقدم- كما صاغها هوبس وروسو ولوك -كعقد اجتماعيّ- وكما أكمل بناؤها الديمقراطيون والليبراليون كحالة قانونية ومواطنة وحقوق وحريّات، سنكتشف أنها فقدت وهجها، أو لم تعد هامة بقدر ما تخدم مصالح عابرة للحدود لقوى متنفّذة -اقتصادية بالأساس- ترى في الدولة أداة لتحقيق مصالحها، ولا يهمّ إذ لم تكن كذلك بالنسبة لمواطنيها وسكانها.
بمعنى أن سوريا مثلًا لا حصرًا، يُمكن أن تنتهي كدولة مواطنين، وتبقى على أنها جغرافيا من الموارد الطبيعيّة. وكذلك الكونغو أو ليبيا أو الصومال أو غيرها من مواقع في شبه جزيرة القرم والقوقاز وأرخبيل المحيط الهادي.
إن لم نتحرّر من فهمنا التقليدي المحافظ للدولة، ومن تصوّراتنا الرومانسية لها ولدلالاتها، فسنظلّ نحكي ونكتب عن الدول بوصفها أوطاناً ما نحكيه ونكتبه منذ التحرّر من الاستعمار أواسط القرن العشرين. أو أننا سنظلّ على أمانينا وأوهامنا التي بنتها بالدم والتضحيات الجسام، حركات التحرّر القومي بشأن الدولة ووظائفها بالنسبة للأصلانيين والفئات المُستضعفة والمهمّشة. “ستنتشلكم الدولة من القاع” قالوا للناس. “وستصير الدولة وطنًا، والوطن حضنًا دافئًا بعد أن سلبه الاستعمار وسلب موارده منكم”! منذ ذلك الحين مرّت فوق فلسطين والشام والعراق ووادي النيل أسراب لا تنتهي من الطيور المهاجرة. تغيّرت الدول على الأرض ألف مرّة، وإن ظلّت تُسمى دولًا في اللغة، وتعدّ راياتها في أعلى بناية الأمم المتّحدة في نيويورك!
تعمل كلّ القوى السياسيّة المعارضة والموالية في كل مكان، بما فيه المكان العربيّ، بوحي من فرضيات سوسيولوجيا الدولة الإقليمية/ القومية. تمارس السياسة وتُنتج عقائد وموديلات ضمن هذه الحدود وتكرّس الخطاب ذاته بشأن مفهوم الدولة الكلاسيكي كأن شيئا لم يحصل، لا في الفكرة ولا في ممارساتها واحتمالاتها ووظائفها. علينا أن نعترف أن الدولة صارت أبعد، إذا صحّ التعبير. صارت أكثر استعصاءً، وهذه المرّة بسبب انقضاض قوى العولمة على المناطق السياسيّة الضعيفة لكن الغنيّة بالموارد الطبيعيّة والمصالح (خطوط ملاحة ومواقع استراتيجية لضمان نقل النفط مثلًا).
وقد تصير النُخب الوطنيّة هي وسيلة قوى العولمة للسيطرة ووضع يدها على دول وبلاد كاملة، أو جزء منها. أمّا تنادي بعض القوى الإقليمية أحيانًا لإعادة إعمار -سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان مثلاً- هي نموذج لنهج رأسمال عالمي ينقض على الأزمات ويستثمرها مثلما يستثمر مواقع الاستقرار. وهناك نظريّة متكاملة في العلوم السياسيّة (مسجّلة باسم الأمريكية ناعومي كلاين) تتقصّى خطوات الرأسمال العالمي لاستثمار مواقع الأزمات، بما فيها تلك الكوارث التي تنجم عن كوارث طبيعيّة.
على السوريين -أو غيرهم- ألّا يواصلون انتظار الدولة التي لم تتحقّق لهم رغم الجلاء الفرنسيّ. عليهم التفكير ببناء اجتماعهم من الشرط الذي وصلوا إليه على أساس الذي تمنوه من نُظم ومضامين ودساتير وحريّات وحقوق. صحيح أن للدولة دورها الأساس في بناء الاجتماع، لكن في غيابها -وحيث استطاع الناس أن يفعلوا- على القوى الفاعلة أن تُنظّم الاجتماع، وتقوم بأوده ريثما يكبر ويكتسب مناعة.
يبدو لي أن الناس في كلّ العالم راهنوا على الدولة ووظائفها، ومُعظمهم خابوا، لا سيّما أولئك الذين خرجوا من نفق الاستعمار بتضحيات جسام. وقد آن الأوان ليُراهنوا على أنفسهم، ليس كحركة ضد الدولة، لكن كمرحلة مؤقّتة يحققون فيها اجتماعهم، وبعض حياتهم إلى أن يكتمل اقتدارهم. أن ينظّموا أنفسهم وحياتهم على كل مرافقها، وأن يؤسسوا ما لزم من نظام علاقات وقواعد إدارة في أصغر ضيعة وأكبر حاضرة، كي يكونوا وإن غابت الدولة.
سيكون عليهم -إذا ما حاولوا- أن يلعبوا مع العالم وقواه، أن يحاوروه ويصارعوه، فهو ليس عالمًا محايدًا البتّة. بمعنى أن على الإنسان الفاعل، والقوى الفاعلة، أن تتعوّد أنها فاعلة، ليس على مستوى وطن ومجتمع، بل على مستوى إقليم وعالم.

Exit mobile version