تلقينا قبل أيام خبر استشهاد الصديق الصحفي والثائر السلمي نبيل الشربجي في أيار من العام 2015، وهو المعتقل في سجون النظام منذ العام 2012، تنقل خلالها بين فرع المخابرات الجوية والفرقة الرابعة وسجن عدرا، ثم أخيراً في سجن صيدنايا، ذاق خلال تلك الفترة أقسى أصناف التعذيب البدني والنفسي، كما كانت تدل رسائله المسربة من سجن عدرا.
تصلح قصة الشهيد نبيل لأن تكون حكاية نموذجية تعبر عن حال شريحة كبيرة من السوريين؛ أولئك الذين لم يتجاوزوا في ردّ الظلم عن أنفسهم، فلم يردّوا على النظام بالمثل، وكان سلاحهم الوحيد هو سلاح الكلمة في مواجهة الرصاص، وهي جزء من حكاية أكبر حملت عنوان الانتقام من السوريين الذين كانوا على هامش الصراع الدموي. هذا الانتقام لم يبدأ بعد ثورة 2011، بل قبلها بعقود، وكان قد وصل حداً لا معقولاً في الثمانينات، وما تلاها من سنوات مظلمة، اقتيد خلالها عشرات الآلاف من السوريين إلى المعتقلات ظلماً، دون أن يكون لهم أي ارتباط أو مشاركة بما حدث من مواجهات بين النظام ومعارضيه.. غالبيتهم ماتوا بصمت تحت قسوة التعذيب أو بسبب الإهمال والمرض، وقليل منهم خرجوا إلى عالم غيّبوا عنه، ليكملوا ما تبقى من حياتهم في سجن أكبر قليلاً، ولا يقل قسوة عن سابقه..
في لحظات انتصاره على المجتمع، لم يكن نظام الأسد يبحث عن سند شرعي لممارساته القمعية، فلم يبحث عن فتوى لتدمير حماة على سبيل المثال، وإنما كان مشغولاً بالبحث عن غطاء دولي وتوازنات تحميه من المساءلة، فكانت تلك سياسته قبل أن يخوض في أي مغامرة داخلية أو إقليمية.. لكنّ بعض المشايخ، الذين يصح فيهم وصف “مشايخ السلطة” كانوا يتبرّعون للسلطة بالسند الشرعي طواعية، كمحاولة للتقرب ربما، أو انتقاماً من الخصوم في الدين، أصحاب الرأي الفقهي أو السياسي المخالف.
يعد الشيخ البوطي أحد أكثر الذين ورّطوا أنفسهم مع السلطة، والظاهر أنّه أدّى دوراً أكبر مما كان مطلوباً منه بكثير. ففي كتابه المعروف “الجهاد في الإسلام” والصادر عن دار الفكر في العام 1993، قدّم البوطي تبريراً لجميع الأعمال الدموية التي قام بها النظام خلال العقد الذي سبق تأليف الكتاب. يومها لم يكن النظام مهتماً بالبحث عن سند شرعي لممارساته، فلقد كان قد دمر بشكل مسبق جزءاً كبيراً من مدينة حماة، وقتل عشرات الآلاف من أهلها، كما انتقم من كل سوري يشتبه بميوله الإسلامية أو المعارضة لنظام الأسد، فضلاً عن قتله لآلاف الأبرياء الذين لم يكن لديهم أي نشاط سياسي أو ديني.
كان قد مضى على سياسة الاعتقال والقتل والإذلال عشرة أعوام كاملة حين جلس البوطي مستجمعاً حذلقته اللغوية، وكامل معارفه الفقهية، بعيداً عن أي ضغوط كما يبدو من طريقة التحليل وتوقيته، ليكتب ما يمليه عليه ضميره! فقام، وبكل برود، بتسييس أحكام الحرابة، بعد أن أسبغ على السلطة شرعية لا تستحقها، وعمل على المبالغة في تجريم الفئات المعارضة للسلطة أو الخارجة عليها.
في كتابه المشار إليه، جرّد الدكتور البوطي الخارجين على السلطة (في زمانه) من كل مخفّفات الأحكام الشرعية بحقّهم، رافضاً وضعهم ضمن خانة البغاة. والبغاة هم فئة خرجت لمقاتلة إمام المسلمين اعتماداً على رأي اجتهادي، مع توفّر الشوكة والمنعة والزعيم المطاع، وهذه الشروط (بحسب البوطي) تفرض على الدولة آداباً معيّنة في قتالهم، فلا يجوز للدولة على سبيل المثال تعقّب المنهزمين منهم بالقتل، ولا الإجهاز على الجريح منهم، ولا مصادرة أموالهم، كما لا يجوز قتل أسراهم بل يؤدبوا بالسجن إلى أن يتوبوا، ولا يُقام عليهم القصاص في قتل الأنفس، ولا يغرمون بدفع الديّات..
لكنّ البوطي رفض منح المعارضين لنظام الأسد صفة البغاة التي تُلزم الدولة (وإن كانت شرعية) بحدود وضوابط صارمة أثناء مقاتلتهم، بل جعلهم من المحاربين (وهم بحسب التعريف الفقهي: أهل الحرابة أو قطاع الطرق أو المفسدين في الأرض) الذين يحق للحاكم أن ينفّذ فيهم عقوبة الحرابة، وهؤلاء بحسب تعريفه لهم: “الذين خرجوا على إمام المسلمين، دون الاعتماد على رأي اجتهادي له وجه يمكن قبوله ولو بوجه ضعيف، أو دون أن تكون لهم شوكة وزعيم مطاع فيهم، فليس على الدولة أن تتقيّد في مقاومتهم بشيء من تلك الضوابط والآداب، بل يعدون عندئذ من أهل الحرابة، وبوسع الدولة أن تعاملهم كمعاملتهم”..
جاء البوطي بعد مضي عقد من الاعتقال التعسفي، والقتل والاغتصاب في الأقبية، أي بعد أن فرغت السلطة من الإجهاز على معارضيها، ليقول لنا وللسلطة أيضاً إنّ كلّ الذي مضى كان وفق المعايير الشرعية الدقيقة! فمن حق السلطة أن تقتل أو تصلّب أو تقطع أطراف أولئك المفسدين في الأرض، بحسب فهم البوطي..
ظهر التخبّط بشكل أوضح عندما بدأ البوطي بالتفريق بين التطرّف الإسلامي في مصر، إبّان توقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وبين تطرّف الجماعات الإسلامية في الجزائر، فميّز بذلك بين الخروج على كامب ديفيد باعتباره خروجاً أقلّ سوءاً، أو أكثر منطقية، من خروج الإسلاميين في الجزائر، أو خروج الإسلاميين في سوريا، وساق المبررات التي تدعم فكرته لإثبات ذلك.. ولكن هذه المبررات التي ساقها للتفريق ما بين حرابة مشروعة (وهي بحسب رأيه تعد مقاومة للحرابة الإسرائيلية) وحرابة غير مشروعة تستوجب أقصى درجات العقاب، تصبّ بمجموعها في إطار التسييس الفقهي الصارخ، ضمن مناخ سياسي عام يجعل من الصراع الإسرائيلي مقدماً على أي مطلب آخر في مجتمعاتنا.
وهذا الرؤية كانت قد فرضتها السلطة على المجتمع، ولم يستطع البوطي أن يخالفها في ذلك، مما اضطّره لمخالفة منهجه المتّبع في الكتاب! فمنح أهل الحرابة الذين يرفعون شعار مقاومة “إسرائيل”، أو الخروج على من يصالحها، المخففات الفقهية لعقوبة الحرابة، بالرغم من أنهم قاموا بقتل رئيس دولة بعد ذلك.. بينما لم تطاوعه نفسه على منح الخارجين على سلطة ظالمة قتلت من أهل البلد نفسه أضعاف الذين قتلهم الكيان الصهيوني المعتدي، منذ الأيام الأولى لاحتلاله فلسطين!
ينتمي البوطي إلى ذلك النوع من المشايخ الذين لا يقيمون وزناً للدم المسفوك على يد سلطة ظالمة، ويجعلون الكفر اللفظي البواح مسألة أشدّ خطورة على الدين والمجتمع من سفك دماء المئات أو الآلاف من الأبرياء، وهذا ما يتعارض مع أبسط بديهيات الإسلام، ففي الحديث: “لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دماً حراماً” (البخاري)، وفي رواية أخرى: “لزوال الدنيا أهون عند الله من دم امرئ مسلم”..
في اللحظة التي كان البوطي يحضّر فيها كتابه عن الجهاد، لم يكن الجلاد قد فرغ بعد من صلب ضحاياه.. وبينما كان الشيخ يتقرب إلى السلطة بفقه مشوّه وافتراء صريح، وبخدمات لم تخطر على بال السلطة، ولا حتى على بال الشياطين، كان السجّان يؤدي دوراً لا يقل بشاعة عن الدور الذي يؤدّيه اليوم، وكانت أرواح آلاف الشباب تصعد إلى السماء.. غالبيتهم شبابٌ كانوا يحملون نُبل الشهيد نبيل، وطموحاته وأمله بمستقبل أفضل يليق بسوريا..
أرواح صعدت إلى السماء تحمل معها قهراً يكفي لإهلاك كل من على وجه الأرض، ودعوات كبتها الاعتقال والتعذيب تصيب الطغاة، وكل من والاهم، أو حرّضهم، أو زيّن لهم الجريمة..
أمّا عن سؤال: “هل يجوز الترحّم على البوطي؟”
فالجواب: “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ” (هود: 18).
كاتب سوري