مجلة طلعنا عالحرية

بشر.. مثلكم !!*

في صيف 2010 كنت على وشك أن أستلم عملاً جديداً. اتصل بي صاحب العمل واقترح أن نتعارف ونتكلم بالتفاصيل في مقهى في سوق ساروجة الشعبي وسط دمشق. كان اللقاء أثناء كأس العالم، واتضح أن صاحبنا يدعوني لنشاهد المباراة معاً.

لم أكن أعرف أن كرة القدم وفرق البلدان غير التقليدية أصبحت شعبية لهذه الدرجة في بلدنا؛ حتى ينقسم الجمهور إلى مشجعين للفريقين، بعضهم لبس قمصان الفريق الألماني ورفع علم ألمانيا (ومنهم صديقي وزوجته!).. والقسم الثاني كذلك، ولكنه يشجع غانا! وفهمت أن مشجعي غانا متحمسون لفريقـ(ـهم) فقط لأنهم ضدّ فريق ألمانيا، وليس تضامناً مع الشعوب المستضعفة في الأرض.. كانت معلومة جديدة أن أتعرف على علم هذه الدولة!

وسط ذلك الجو الصاخب، بدت درجة محبتي لكرة القدم غير كافية، ولا أعرف كيف خطر لي أثناء الصراخ المتداخل هناك لو يكون الهتاف ضدّ الحكومة أو ضدّ القمع أو من أجل العدالة بدل أن يكون ضدّ حكم المباراة أو لتشجيع أحد اللاعبين أو حتى لتحية (أبو صالح) صاحب المقهى عندما يبرد إيقاع اللعب! لكن الخاطرة زادت من إحباطي باهتمامات الشباب ومن إمكانية تحركهم من أجل التغيير في هذا البلد. عدت لبيتي مهزوماً بعد أن صمدت لشوط كامل أمام ألمانيا وغانا؛ فيومها لعب الفريقان مع الجمهور وكل ما كان هناك من كراسي وطاولات وفناجين وأراكيل وأعلام.. كلهم معاً، ضدي!

بعد أشهر، في بداية 2011 ومع تطور الأحداث في المنطقة، اتفقت مجموعة من أصدقائنا من دمشق وأريافها على ضرورة مناقشة ما يجري في تونس ومصر واليمن وليبيا، وبعد عدة لقاءات خلصنا إلى أن الربيع العربي سيصل لبلدنا لا محالة، واتفقنا أيضاً أنه لا ينبغي علينا أن نسرّع وصوله، لكن في حال بدأ الناس بالتحرك فعلينا حتماً أن نصطف معهم.

كانت اعتصامات السفارات التونسية والمصرية والليبية محطات مهمة لإرهاصات الثورة، أظن أن جميع من كان في آخر اعتصام أمام السفارة الليبية شعر أنها لحظة فارقة في البلد.

لم نستطع اللحاق بمظاهرة 15 آذار في سوق الحميدية التي تمّت بالفعل –خلاف توقعاتي– خاصة بعد دعوات سابقة للنزول للشوارع لم تقابل باستجابة، بينما تظاهر الناس دون دعوة أو ترتيب مسبق في منطقة الحريقة في 17 شباط. ذهبنا للجامع الأموي لصلاة العصر (كما دعا أول فيديو نُشر للمظاهرة). المخابرات في كل مكان والدهشة والترقب على وجوه أصحاب المحلات وكل من كان يومها في السوق.

في طريق عودتنا من الجامع الأموي مررنا بساحة المرجة وفوجئنا بوجود عشرات من عناصر الأمن ومكافحة الشغب والباصات والسيارات مستعدة.. وصرنا نتندر على وجودهم المبكر وجهوزيتهم لقمعنا.

في اليوم التالي، 16 آذار، كان هناك دعوة سابقة منذ 9 آذار، لاعتصام أمام وزارة الداخلية في المرجة، تضامناً مع معتقلي الرأي الذين بدؤوا إضراباً مفتوحاً عن الطعام.

قبل أن نصل لساحة المرجة -مكان الاعتصام- بدقائق اتصل بي صديقي يحيى، قال إن المخابرات صادرت كاميرته وهويته واعتقلوه، لكنهم ليسوا أمامه الآن. كان يحيى يحمل الكاميرا الوحيدة -من طرف المعارضة- التي صورت بداية الاعتصام وقمع المخابرات والشبيحة له. انشغلت المجموعة عن اتمام اعتقال يحيى بتعالي الهتاف في الساحة، وبالهجوم على المعتصمين.. تمّ اعتقالنا مع كثيرين، منهم زوجتي الحامل بطفلتنا الأولى.. كانت ابنتي إيمار أول جنين يدخل المعتقل في الثورة السورية! وذلك قبل أن يصبح عدد المعتقلين بالآلاف ومنهم النساء والأطفال.. والأجنّة!

في سجن دمشق المركزي (سجن عدرا) انضممنا للمعارضين المضربين عن الطعام. وكانت الظروف مختلفة عن فروع المخابرات التي قامت باعتقالنا، ومن ذلك أن هناك تواصل من نوع ما بالعالم الخارجي، لكن مصادر الأخبار تقتصر على التلفزيون والجرائد الناطقة باسم النظام. قرأنا خبر اعتقالنا ووصفنا بـ(المندسين)، الأمر الذي صار موضع سخرية وتندر كبير وقتها. وشاهدنا المتحدثة باسم النظام تتكلم عن تحريض طائفي من قبل الموجودين في الاعتصام! وأيضاً كان له نصيباً من السخرية، فالمفارقة أن المعتقلين الذين اجتمعوا في ملف واحد كانوا ينتمون لطوائف وإثنيات وخلفيات فكرية مختلفة وكذلك كان منهم نساء ورجال.

بدأت تصلنا الأخبار المسرّبة إلى داخل سجن عدرا عن بدء المظاهرات في درعا وغيرها. لم يكن معظم ما وصلنا صحيحاً.. علّق أحد الزملاء: “ربما هناك مبالغة في الأخبار.. لكن يمكننا القول إن الثورة السورية قد اندلعت“!

عند خروجنا، استقبلنا الأصدقاء عند باب السجن بالتصفيق والصفير لتحيتنا، رغم وجود الشرطة والمخابرات. ورغم أننا لم نقض في السجن أكثر من أسبوعين كانا من (ألطف) ما عند النظام بالنسبة لفروع التعذيب والتغييب الجهنمية.

معظم الناس كانوا مترددين بالمشاركة بالمظاهرات.. أذكر في أحد أيام الجمع الأولى، بدأت المظاهرة بأقل من عشرين شخصاً، حاولوا تحميس الناس واستعطافهم أمام الجامع وفي السوق، ولم يزد العدد إلا بضعة شباب آخرين. لكن عند عصر ذلك اليوم لم نعد نستطيع أن نرى آخر المظاهرة.. ربما وصل العدد لعشرين ألفاً! كان الناس يهنئون بعضهم وكأنه عرس شخصي لكل واحد منهم. وبالكاد يعرف أحد الشخص الذي يعانقه ويبارك له.. تلقيت ضمّة قوية من شاب عرفت لاحقاً أن اسمه (أبو عدنان).. قال: “الحمدلله عالسلامة.. حبستك ما بتروح عالفاضي“.. (الحبسة) التي تكلم عنها أبو عدنان كانت بضعة أيام، وقد اعتقل هو بعد أسابيع ومازال غائباً حتى الآن!

في نيسان 2011 وبعد ارتقاء أول الشهداء في داريا، تم تشييعهم في اليوم التالي. في لحظة انطلاق التشييع سمعت صوت زغاريد من النساء في الأبنية المطلّة على الشارع، وصرن يرمين المشيعين بالأرز.. لم أكن أعرف أياً من الشهداء شخصياً.. لكن البكاء غلبني.. الزغاريد في زفاف الشهداء شيء كنا نسمعه في الأغاني.. الآن نحن في مشهد من أغنية مؤثرة وحقيقية.

اعتقلت ثانية مع معظم ناشطي المدينة في مطار المزة العسكري.. وأطلق سراحي بعد شهرين. ثم بعد أسبوعين عادت قوات المخابرات الجوية لتعتقل النشطاء من جديد.

واعتقل صديقي مازن الذي أطلق سراحه معي.. وقيل لي إنهم في الطريق لاعتقالي. فتركت بيتي والتحقت بأصدقائي الذين سبقوني للعمل في الخفاء.

بعد أكثر من سنتين، استطاع زيد بن مازن أن يرى –بصعوبة– خيالاً هزيلاً من وراء عدة حواجز، أثناء زيارة خاطفة لأبيه في سجن صيدنايا العسكري، وقيل له إن هذا هو (بابا) دون أن يتمكن من إخبار (الشبح) أنه دخل المدرسة وهو متفوق بين زملائه بينما يقترب مازن الأب من طي العام الخامس!

سكنت مع أصدقائي يحيى شربجي وغياث مطر ونبيل وبشار ومحمد في شقة سرية في دمشق.

كنا نتنقل من بيت سري إلى آخر كلما شعرنا بالخطر. لكن أحد الكمائن تمكن من اعتقال يحيى وغياث مع آخرين. يومان بعدها وصلنا أن غياث استشهد تحت التعذيب. ولم نتمكن من الوصول لجنازته. ولا زال جميع من اعتقلوا ذلك اليوم قبل أربع سنين ونصف غائبين.

كانت أياماً عصيبة، خاصة بالنسبة لعائلتي؛ أنجبت زوجتي وأنا في المعتقل، ولم أتمكن من رؤية طفلتي الأولى قبل أن تبلغ أسبوعها الثالث، ثم تركتها تكبر بعيداً عني.. وغول اعتقالي حلّ ثقيلاً على لحظات الرقاد. لكن تبدو هذه الصعوبة نعيماً الآن بالنسبة لعذابات تجرعتها –ولا تزال– عوائل سورية كثيرة.

لاحقاً، اضطرت زوجتي أن تترك البيت أيضاً وتتابع عملها في الخفاء مثلنا، بعد أن داهمت المخابرات الجوية بيتنا واعتقلوا أخاها صهيب، وهددوها بالقتل وهددوا أيضاً بخطف ابنتنا كرهينة عني! أطلق سراح صهيب لاحقاً لكنه اعتقل مع أخيه إقبال بعدها.. ومازال الإثنان غائبين حتى الآن!

أمضينا أكثر من سنة متوارين في دمشق. لكن القبضة الأمنية وملاحقة الناشطين بقيت تتصاعد، والحواجز تخنق المدينة.

فقررنا أن ننتقل للغوطة الشرقية التي خرجت عن سيطرة النظام في آخر سنة 2012. وصلنا إلى الغوطة في نيسان 2013، وبدأنا بالعمل وصار عندنا –لأول مرة– مكتب للحراك السلمي السوري وأيضاً مكتب لمركز توثيق الانتهاكات في سوريا، نتواصل فيهما مع الناس مباشرة.

لكن، في كانون الأول من نفس السنة، تم اختطاف زملائي سميرة ورزان ووائل وناظم من قبل مجهولين. أعدنا افتتاح مركز توثيق الانتهاكات بعد اختطاف أصدقائنا بأسبوع، دون أي خبر عنهم حتى الآن.

نقترب الآن من طي عامنا الثالث في الغوطة الشرقية. القصف والحصار أكثر ما يؤثر على حياتنا. يشتد أحدهما ويتحلحل الآخر دون أن ينقطعا. وتطالنا (النيران الصديقة) من منتقدي العمل السلمي وحقوق الإنسان دون أن تنال من (تحصيناتنا)..

في الصورة الأوسع لكل البلد، صار السوريون ضيوفاً على قضيتهم.. يُدعَون أحياناً ليستمعوا ما يقرره غيرهم لهم ولبلدهم ويتم تغييبهم أحياناً أكثر.

في بداية الثورة كنا مندفعين بحماسنا للتغيير. ثم تحول الأمر إلى مسؤولية لما استشهد أصدقاؤنا.

عندما أستعرض تفاصيل ما حدث في السنوات الأخيرة على المستوى الشخصي لا أفهم السبب في كثير منها؛

لماذا ركب غياث السيارة في اللحظة الأخيرة بدلاً مني؟ لماذا لم أكن في مكتب توثيق الانتهاكات –كما العادة– عندما تمت مداهمته واختطاف كل من كان فيه؟ لماذا تقع مجزرة الكيماوي على بعد قرية واحدة منا؟ لماذا أخطأتني آلاف الصواريخ والقذائف التي سقطت على بشر مثلي يمشون حيث أمشي؟!

لماذا بعد خمس سنين من الصراخ، ومئات آلاف الضحايا والمعتقلين والمهجرين لازال علينا أن نشرح لسكان هذا الكوكب أننا مثلهم، لسنا أقلّ ولا أكثر..

نحن بشر.. مثلكم!

——————————————————–

مدونــة أسامـة نصـّار

تدوينة كتبت بطلب من منظمة العفو الدولية بمناسبة الذكرى الخامسة للثورة السورية، تم نشر نسخة مختصرة بالإنكليزية على موقع سيريا ديبلي

Exit mobile version