Site icon مجلة طلعنا عالحرية

بدي ياسمين!

كاريكاتير سمير خليلي

علي فاروق

قد لا يعرف الكثيرون أن معظم حالات الوفاة التي تقع داخل السجون والمعتقلات السورية، سببها المرض بالدرجة الأولى، وليس التعذيب الجسدي، وإن كان التعذيب الجسدي، والنفسي، وقذارة أماكن الاعتقال، وافتقارها لأدنى الشروط الصحية، وندرة الطعام، وغياب العلاج، سبباً في إضعاف أجساد المعتقلين، ما يجعل مقاومتها للأمراض منعدمة تقريباً.. على أن التعذيب بات يحتل المرتبة الثانية في أسباب الوفاة، بعد المرض، على عكس ما كان عليه الحال في الأعوام الثلاثة الأولى من الثورة؛ حيث كان قتل المعتقلين بطرق وحشية، والتنكيل بهم بأساليب سادية، وتعريضهم لممارسات همجية كالاغتصاب، والاعتداءات الجنسية المختلفة، والضرب بأنواعه، والحرمان من النوم، وغيرها، من وسائل ‘‘الردع’’، والترهيب، كمحاولة لوأد الثورة، والقضاء عليها في بداياتها الأولى.

في الأعوام التالية تحول التعذيب لأنساق منظمة، وعمليات ممنهجة، ولم تعد اعتباطية، وتُمارس بهدف الحصول على المعلومات، واختراق صفوف المعارضين، بالإضافة لدورها التقليدي، في تكريس حالة الخوف، والرعب العام، باعتبارها وسيلة تحكم، وسيطرة، اعتمدها نظام الأسد منذ اليوم الأول لوصوله لسدة الحكم.

وربما كان للنصائح، والإرشادات التي قدمها المستشارون الأمنيون الإيرانيون، والروس، دوراً في دفع النظام لتعديل بعض سلوكياته الأمنية، كما ساهم تسليط الضوء من قبل الدول، والمنظمات الحقوقية على قضية المعتقلين، بنصيبٌ في ذلك التغيير، دون أن يعني ذلك الوصول إلى الحد من التعذيب، أو إيقافه. عمد النظام لتغيرات شكلية، لاجوهرية، في ممارسات الأجهزة الأمنية، لتبدو وكأنها استجابة للمطالبات الدولية، وحاول ترويجها على أساس أنها ‘‘إصلاحات أمنية’’، فيما لم تتعد حقيقتها أن تكون حملات دعائية، ومناورات، وتبادل أدوار بين أجهزة مختلفة، ومتصارعة، بما يشبه لعبة ‘‘الكراسي الموسيقية’’؛ ففي بداية الثورة مثلاً، اشتهرت إدارة المخابرات الجوية، وذاع صيتها بسبب ارتفاع أعداد المعتقلين الذين يستشهدون داخل أقبيتها، فجرى تعديل ذلك بعد مدة، لتتقدم مكانها إدارات أمنية أخرى، كشعبة المخابرات العسكرية، لاسيما الفرع (215)، وفرع المنطقة (227)، وإدارة المخابرات العامة “أمن الدولة”، ولا سيما الفرع (251)، المعروف باسم “فرع الخطيب”، والفرع (40)، الذي كان يشرف عليه العميد “حافظ مخلوف”، وفرع التحقيق (248).

بعد التفجير الذي وقع في قلب دمشق، 18 تموز 2012، أجرى “بشار الأسد” بإشراف المستشارين الإيرانيين، حركة تنقلات في قيادات الأجهزة الأمنية؛ فتم نقل اللواء “علي مملوك” من إدارة المخابرات العامة “أمن الدولة”، إلى رئاسة مكتب الأمن الوطني، وعين اللواء “ديب زيتون” الذي كان يرأس شعبة الأمن السياسي، مديراً لإدارة أمن الدولة. تحسن الوضع نسبياً في الفروع التي تتبع جهاز أمن الدولة، وانخفضت أعداد الشهداء، فيما ازداد الأمر سوءاً في فروع الأمن السياسي، وارتفعت الأرقام، بتعيين اللواء “رستم غزالي” رئيساً لها. كان هذا في الوقت الذي حافظت الفروع التابعة لشعبة المخابرات العسكرية، التي استمر اللواء “عبد الفتاح قدسية” في رئاستها، على المعدلات المرتفعة في حالات الوفاة، وتبادلت الفروع العسكرية مركز الصدارة فيما بينها، من وقتٍ لآخر، من الفرع (215)، إلى فرع المنطقة (227)، إلى فرع فلسطين، وفرع التحقيق (248)، والفرع (291).

خلال فترة اعتقالي تنقلت بين ثلاثة فروع أمنية، وسجن مدني، وسجن عسكري، وشهدت عدة حالات وفاة، أربع منها كانت في الفرع الأول، حالتان من الحالات الأربع كانت نتيجة المرض، وحالة مختلطة نتيجة المرض، والتعذيب معاً، فيما حالة الاستشهاد بسبب التعذيب المباشر، كانت لشاب من بلدة “بصرى الشام”، في ريف درعا، لم أتمكن من معرفة معلومات كافية عنه، فقد استشهد خلال الأيام الأولى لاعتقاله، وكان يُدعى “قتيبة” على الأرجح.

في أحد الأمسيات سالت دماءٌ من تحت الباب، وتسللت إلى مهجعنا، كان ذلك دم “قتيبة”، الذي وصل إلى الفرع ذلك المساء، لم يتمكن “قتيبة” من الدخول على رجليه إلى المهجع، فقد استقبله السجانون بحفلة تعذيبٍ ليس لها مثيلٌ، كادوا يخلعون باب المهجع الحديدي، لشدة ما ضربوا جسده النحيل عليه، لكننا لم نسمع صوتاً له مطلقاً، ظل “قتيبة” صامتاً طيلة “حفلة الاستقبال”، التي استمرت ما يقرب الساعة، إلى أن ركل السجان الباب، ورمى شبه جثة، مضرجة بالدماء، وأمرنا بعدم الاقتراب منها، أو الحديث معها، لكننا لم نأبه لقوله؛ ساعدني صديق في تنظيف الدماء عن جسد “قتيبة”، وأحضرنا له ماءً، وكسرة خبز، ثم حاولت أن أستفسر منه عن اسمه، وأهله، ومكان سكنه، لكنه رفض أن يجيب، وبعد فترة من الصمت، همس فجأةً: “جبلي سيجارة، وكاسة شاي..”، فأجبته: والله يا صديقي ما في عنا، يا ريت..

بعد ساعاتٍ، استدعي “قتيبة” لجلسة التحقيق الأولى، فنهض الشاب بصعوبة، ليعود بعد ساعتين تقريباً، محمولاً؛ وبعدها صار عاجزاً عن المشي، وصار يقضي حاجته في مكانه، دون أن يشعر، وبدأنا نساعده في تنظيف نفسه.

في جلسة التحقيق الثانية حملنا “قتيبة” ومددناه على الأرض، خارج الباب، حضر المحقق وبدأ يستجوبه هناك، لكن “قتيبة” لم يتفوه بكلمة، ورفض حتى أن يقول اسمه، بقيت خلف الباب أحاول التنصت، سمعت المحقق يكلمه بهدوء، وحينها سمعت المحقق يناديه “قتيبة”، لكن “قتيبة” بقي صامتاً، ولم ينطق إلا عندما أتى المحقق على ذكر زوجته، وابنته، عندها سمعت بكاءه لأول مرة، وسمعته يردد: “بدي ياسمين..”! قدرت في نفسي أن ذاك هو اسم ابنته..

بعد يومين، كانت جلسة التحقيق الثالثة، والأخيرة، أدخلنا جسده النازف، المهشم، ومددناه أرضاً، كان ينزف بغزارةٍ، وبالكاد كان يستطيع التنفس، في ذلك اليوم تحطمت عظام “قتيبة”، كما تحطمت روحه، وبدا كما لو أنه تلاشى نهائياً.

في عصر اليوم التالي، أعدنا جسده إلى المكان الذي رأينا دماءه تدخل منه، قبل أن يدخل علينا وجهه، كانت روحه تفيض ببطءٍ، وتغادر مرةً واحدةً جسده النحيل، المحطم.

Exit mobile version