توقّفت المفاوضات السورية-السورية في جنيف من دون أن تصل إلى أي أفق يسمح باستمرارها، وذلك بسبب إصرار وفد النظام على اعتبار بقاء الرئيس بشار الأسد خطاً أحمر لا يمكن مناقشته، ومع إصراره على رفض أي حديث عن انتقال سياسي في سوريا، والتصريح بأنه مخول فقط بالحديث عن حكومة وحدة وطنية، بما يخالف منطوق توافقات جنيف1، ومنطوق القرار الأممي رقم 2254، الأمر الذي حمل المعارضة على تعليق المفاوضات.
على أي حال فإن هذا لا يعني انتهاء المفاوضات، إذ أن المعارضة أظهرت موقفها باعتباره مجرد تعليق للمفاوضات، وليس انسحاباً منها، بهدف إعطاء مهلة للأطراف الدولية المعنية للضغط على النظام، أو بالأحرى على حلفائه، لإعادة المفاوضات إلى السكة اللازمة لانتهاء الصراع السوري، وتحقيق الانتقال السياسي.
ومن الواضح أن هذا الموقف يأتي بسبب غلبة دور الخارج على دور الداخل في الصراع الدائر، إذ أن أياً من الطرفين، أي النظام والمعارضة، غير قادر على حسم الأمور لصالحه، فالنظام يستمد قوته من روسيا وإيران، في حين أن الولايات المتحدة الأميركية تشتغل في إدارة الصراع، بإبقائه مفتوحاً ضمن توازن معين، ما يطيل معاناة السوريين، ويترك الأمر لروسيا للتحكم في الأوضاع على الأرض؛ أي أن الولايات المتحدة بموقفها هذا هي التي تتحمل مسؤولية الحسم وضمنه مسؤولية استمرار الوضع على ما هو عليه.
في الواقع فإن تعليق المشاركة في المفاوضات، من قبل المعارضة، يبدو طبيعياً بعد أن بدا أن النظام ينتهج استراتيجية تفاوضية، مـن ثلاث ركائز، تتأسس أولاً، على تقطيع الوقت من دون الوصول إلى أي نقطة ملموسة. ثانياً، استفزاز وفد المعارضة من خلال الحديث عن وفود معارضة أخرى، أو من خلال التقليل من شأنه، أو بث أطروحات غير مقبولة. وثالثاً حرف أجندة المفاوضات، بحيث تتركز على تشكيل حكومة وحدة أو على نواب للرئيس وعلى ملفات إنسانية وغيرها. وكل ذلك لتضييع المسألة الأساسية التي تتعلق بمناقشة قضايا التوافق على تحقيق الانتقال السياسي في سوريا.
طبعاً لا يمكن لوم المعارضة على موقفها هذا، إذ في هكذا ظروف ومعطيات تفاوضية كان من الأنسب للمعارضة، حتى لا تخسر نفسها وتخسر قضيتها وتخسر جمهورها وتخسر مصداقيتها إزاء العالم، أن تأخذ موقفاً كهذا، علماً أن التعليق يعني لا انسحاب ولا مشاركة، أو لا مقاطعة ولا خضوع لإملاءات، لأن المقاطعة كان يمكن أن تعزل المعارضة وتفيد النظام، ولأن العكس، أي الاستمرار في هذه اللعبة، كان سيضر بالمعارضة ويسمح بالتلاعب بأجندة المفاوضات.
منذ بداية هذه الجولة من المفاوضات (جنيف3) أعلن وفد المعارضة، الذي تشكل في الرياض أواخر العام الماضي، وضمن معظـم تشكيلات الثورة والمعارضة السورية، السياسية والعسكرية والمدنية، أن مشاركته في المفاوضات ستتوقف على عدة مبادئ:
أولها، اعتبار بيان جنيف1 (2012)، والقرار الأممي 2254 (2015) المرجعية للعملية التفاوضية.
ثانيها، وقف القصف الجوي والصاروخي، وصولاً إلى وقف شامل لإطلاق النار.
وثالثها، إطلاق سراح المعتقلين ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة وإدخال مواد تموينية إليها.
ورابعها، البحث في تشكيل هيئة حكم انتقالية، تنقل إليها الصلاحيات التنفيذية كاملة.
على ذلك فقد كان من المهم للوفد أن يعيد التأكيد على هذه المبادئ، لضمان عدم التلاعب بالمفاوضات، وتضييع تضحيات السوريين، وهذا ما أشار إليه رياض حجاب رئيس الهيئة العليا للتفاوض في خطاب شـامل، أوضح فيـه أسباب تعليق المفـاوضـات، ولاقى إجمـاعـاً كبيـراً في أوساط الثورة والمعارضة والمجتمـع السوري.
قصارى القول، منطقياً وسياسياً وأخلاقياً، لا يمكن فهم أي طرف يحاول إطالة عمر نظام بشار الأسد، أو تجنيبه العقاب عمّا حصل من جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، طوال السنوات الماضية، إذ لا يمكن لدماء مئات الألوف أن تذهب هدراً، وكأنها لم تكن، كما لا يمكن الصفح عن موت الألوف تحت التعذيب، ولا عن تشريد الملايين من البشر، ولا عن دمار عمران مدن سورية كاملة.