مجلة طلعنا عالحرية

انتخابات الغوطة الشرقية، من القسر إلى الحرية

مدخل
سُئلتُ كثيراً عن الانتخابات العامة التي جرت في عدة مدن وبلدات في الغوطة الشرقية عام 2017، وكتبتُ عدة مقالات وتقارير للإعلام ومنظمات المجتمع المدني. ما يهمُّني قوله هنا هو إن تلك الانتخابات كانت خاضعة للتطور الطبيعي للمجتمعات. أي أنها كانت تسير على الطريق الذي يوصلنا إلى مجتمع ديمقراطي لا تقتصر فيه الديمقراطية على صندوق الانتخابات. كانت في تلك الانتخابات مؤشرات لتجاوز البنى الأهلية وصعود “للتكنوقراطي”، وبشكل أقل “للسياسي”. بينما كانت الانتخابات لدى الأسد، وما زالت، أداة تشويه مجتمعي وكبحٍ لتطوره. إنه تقابل القسر ضدّ الحرية بكل ما يتشعب منهما. وسنستعرض هنا الأمثلة للدلالة على ذلك.


الطاعة والتطويع
تمنح انتخابات النظام للمنخرطين فيها فرصة التقرّب من المنظومة العليا، وتحويلهم إلى أدوات استتباع وسيطرة، مقابل نيلهم فتاتاً من الفساد والتقرب من مراكز النفوذ. الكلمة الفصل هنا لمن هم “فوق”، وعلى من “تحت” أن يتكيفوا مع ذلك! إنها أداة لترسيخ “السيطرة المركزية” لا لأي هدف آخر؛ لا التنمية ولا لتمثيل السكان ولا اللامركزية ولا غيرها. أما الانتخابات العامة للغوطة الشرقية فقد منحت صعوداً للمنتخَبين إلى أماكن صنع القرار. بعضهم لم يكن لديه أي تجربة سابقة في الترشح أو خوض غمار العمل العام. وقد تكرر عدة مرات قول أحدهم إلى السلطات الدينية والعسكرية “أنا انتخبني الشعب”، بينما يصعب حد الاستحالة لدى الأسد أن تجد نائباً في البرلمان أو عضواً في مجالس البلديات يقول لضابط مخابرات أو لمن هم فوقه ذلك. الانتخابات لدى الأسد هي عامل طاعة لمن هم “فوق” وتطويع لمن هم “تحت”. بينما الانتخابات العامة في الغوطة أنتجت قوّة ضدّ من هم “فوق”، كما يجب أن يكون الحال في الديمقراطية.


سيادة “القيادة” وسيادة القانون
تظهر “الانتخابات” التي يجريها الأسد “صورية القانون” لديه. ففي مثال فج، تبقى لحزب البعث الحصة الساحقة دوماً، برغم إلغاء المادة 8 من الدستور التي كانت تنصّبه “قائداً على الدولة والمجتمع”، دون معرفة أي قانون ضمن له هذه الحصة. بدءاً من انتخابات المجالس البلدية، مروراً بمجلس الشعب ووصولاً إلى “انتخابات الرئاسة”. لقد كان القانون دوماً موضوعاً في سوريا ليتم تجاوزه لا تطبيقه؛ سواء بالرشوة والفساد أو المحسوبية أو طغيان الممسكين برقبة الدولة. وفي حين أن ضعف مأسسة القانون بالعموم في الغوطة حينها يجعل تجريد المقارنة القانونية العامة أمراً غير حصيف لحيثيات ليس هنا مكان شرحها، لكن يمكن القول إن الانتخابات العامة التي جرت خضعت لقوانين وضعتها كل “لجنة انتخابية” وتم الالتزام بها وبنتائجها التي كانت في بعض الحالات غير مرضية للقوى العسكرية والدينية.


تثبيت البنى الأهلية وتجاوزها
لم يكن لدى الأسدين الأب والابن أي اهتمام بدفع البنى الأهلية إلى تكوين وطني، برغم الشعارات التي تتكلم عن إلغاء البنى العشائرية وغيرها. يقول “ذياب الماشي” في فلم “طوفان في بلاد البعث” إن حافظ الأسد قال مرة مشيراً إليه: “إن هذا الرجل معنا وهو زعيم عشيرة”. فقد تحرى الأسد دوماً أن يتعامل مع البنى القائمة كأدوات لدوام حكمه. وهو ما يأخذ مكانه في جميع الانتخابات المقررة. ويتضح أن الأسد في الانتخابات الرئاسية يختار “مرشحين منافسين” لا يكون لهم وزن سياسي أو اجتماعي. وقد نقلت عدة مصادر خبر اعتقال تسعة من أقارب “جهاد الشخير” الذي رشح نفسه للرئاسة. ينحدر الشخير من دير الزور التي تمتاز بحضور العامل العشائري، وهو ما يخشاه الأسد الذي لا يريد أن يبرز في أيِّ وقت أيُّ تجمع، ولو محدود، على شخص غيره.
في الغوطة الشرقية، نجح مرشحون أمام آخرين كانوا من أكبر العائلات. وكذلك نجح مرشحون من عائلات كبيرة بأصوات يتضح أنها تتجاوز أعداد مصوتي عائلاتهم بكثير. كانت هناك محددات للاختيار تتجاوز الحساسيات الأهلية. ولعب الجانب التكنوقراطي والسياسي دوراً أكبر منها بكثير. في مقالي عن انتخابات سقبا شرح أكبر لذلك.


خاتمة
بُنيت فكرة التمثيل السياسي لسكان الغوطة الشرقية بخطوات بطيئة، لكن ثابتة، عبر مجالسهم المحلية. ورافق ذلك تطور في طريقة تمثيلهم في تلك المجالس، وتطور بنيوي داخلها عبر تطوير إجراءات الحوكمة الإدارية. فبعد خروج الغوطة عن سيطرة الأسد نشأت معظم المجالس المحلية التي كانت تؤسس على التعيين من قبل حلقة ضيقة من الفاعلين. ثم تطورت ليصبح انتخاب المجلس عبر “هيئة عامة” يجتمع فيها النشطاء والوجهاء في المدينة أو البلدة لانتخاب مجلس جديد كل سنة. إلى أن وصلت في خمسة مجالس محلية إلى الانتخاب العام لكل السكان صيف 2017 وخريفه. وبدأ حينها التشاور حول تمديد فترة الدورة أكثر من سنة (كان المقترح سنتين) للقدرة على إيجاد تراكم يبني عليه المنتخَبون تالياً. وحددت القدرة على الترشيح في بعض المجالس إلي فترتين وحسب. وبرز ثقل داخلي لتلك المجالس المحلية المنتخبة من العموم ضمن مجلس المحافظة. وكذلك في تقوية العلاقات الخارجية. وكان واضحاً أن كثيراً من المجالس كانت تريد حذو خيارهم في الانتخاب العام.
ورغم أن التجربة لم يكتب لها الاستمرار لرصد نتائجها وتحولاتها على المدى البعيد، لسقوط الغوطة في يد قوات الأسد بعد أشهر قليلة، إلا أنه يمكن القول إنها كانت سيرورة تطور طبيعي لا تؤثر عليها قسراً “قوة فوق المجتمع”، كانت سيرورة تحول ديمقراطي مجتمعي منشود.

Exit mobile version