علي الدالاتي – إدلب
“كانت رحلتنا أشبه برحلة القيامة.. خرجت من منزل أهلي بدمشق نحو حمص ليوقفنا حاجز القطيفة لعدة ساعات، ولنتوجه بعدها لمحافظة حمص، ثم حماة ومنها للرقة. ثم خرجنا باتجاه منبج، ومنها إلى مناطق “درع الفرات” بريف حلب.. وقفنا على حاجز “العون” عدة ساعات، قبل أن نحصل على إذن من الفصائل والقوات التركية لنستطيع الدخول. ومن هناك دخلت إدلب، حيث حاولت عدة مرات دخول تركيا عبر طريق التهريب، ولا أعلم كم مرة سأحاول حتى أستطيع العبور”. كانت دمعة “سهى” تسيل وهي تروي بهذه الكلمات قصّة محاولة الوصول لزوجها المقيم في تركيا بعد تهجيره قسرياً من بلدته بريف دمشق نحو مدينة إدلب؛ حيث خرج منها إلى تركيا، وهي تريد الخروج إليه ليعيدا تأسيس أسرتهما بعد أن تمكن زوجها من تأسيس لحياة جديدة في تركيا.
وهم جالسين في أحد المقاهي ويتكلمون بحديثهم المعتاد عن الهجرة، يصرخ أحمد بأصدقائه: “مادام هناك ثورة في سوريا لن أخرج منها، لقد حلمت لسنين بالثورة على النظام، وعندما أضحى الحلم حقيقة تريدوني أن أهرب من حلمي؟!”. أحمد (32 سنة) مهجر من مدينة حلب لمدينة إدلب، يقول لمجلة طلعنا عالحرية: “في كل مساء أجلس مع أصدقائي هنا لنتناقش بمستقبلنا، لتدور غالبية الحديث عن الهجرة” ويتابع: “فقدنا ثلاثة أعضاء كانوا فعالين بنقاشاتنا: محمد الذي قتل بقصف مدفعي لقوات النظام على ريف إدلب، واثنين خرجا نحو تركيا”. ويختم أحمد كلامه: “أنا أفضل أن أموت هنا بأرضي، مثل محمد، على أن أغادرها؛ فنحن خرجنا بثورة وعلينا المضي بها نحو النهاية”.
وتعيش منطقة إدلب نوعاً من الهدوء المتقطع، وتبقى مترقبة لتفاهمات دولية جديدة، قد تخسر بها المحافظة الخارجة عن النظام مزيداً من أجزائها. وبحسب إحصائيات نشرتها منظمة منسقو الاستجابة، يعيش في شمال غرب سوريا 4 مليون نسمة، منهم 2.1 مليون من النازحين، يعيش أكثر من ثلاثة ملايين منهم تحت خط الفقر.
تخرّج محمد (27 سنة) من كلية التربية منذ عام، وهو منذ ذلك الوقت يحاول الهجرة خارج سوريا، ليصل لإخوته الموجودين في أوربا. كل يوم يمشي في الأراضي الزراعية المحيطة بالمخيم الذي يعيش فيه مع أقاربه، وهو ينتظر اتصالاً من “المهرِّب” الذي سيدخله تركيا، ليذهب مع مهرب آخر إلى اليونان ومنها لبلد آخر في أوروبا. قال محمد لطلعنا عالحرية إنه لم يعد يحتمل العيش في إدلب، فبعد تهجيره من قريته في ريف إدلب الجنوبي ووفاة والدته، “لم يعد هناك شيء يربطني بهذه البلاد، فالوقت الذي يجب أن أقضيه كشاب وأنا أفكر ببناء مستقبلي، أقضيه بالتفكير كيف سأبقى على قيد الحياة، في بلاد لم يبق فيها شيء سهل المنال إلا الموت”.. لم يكمل محمد حديثه معنا لأنه تلقى مكالمة من شخص، تخبره بضرورة التوجه لمنزل المهرب، حيث سيحاولون هذه الليلة العبور إلى تركيا. فهو سبق وأخبرنا أنه إنه مستعجل بالدخول إلى تركيا ليستطيع العبور للأراضي الأوربية قبل حلول فصل الشتاء الذي يصبح فيه الوصول لأوروبا مستحيلاً.
أبو سمير (70سنة) يجلس يومياً على قارعة الرصيف أمام متجره الذي يبيع فيه الأدوات المنزلية في مدينة إدلب. روى الرجل لنا أحلامه هو وزوجته بالسفر لأوروبا، لرؤية أبنائهما المنتشرين في الدول الأوربية، حيث غادروا سوريا إلى تركيا هرباً من القصف الذي استهدف المدينة عام 2015 بعد تحريرها من قوات النظام، ولم يبقَ من أبنائه سوى أصغرهم “مهند” الذي رفض ترك والديه وحيدين، اللذين رفضا بدورهما مغادرة المدينة طمعاً بالموت على الأرض التي ولِدا وعاشا فيها. ولكن أبا سمير اليوم يشعر بالندم بسبب عدم سفره مع أبنائه في ذاك الوقت، ويزداد ندمه ويشعر بتأنيب الضمير كلما رأى ولده مهند الذي بقي في إدلب لأجله ولم يسافر مع أخوته.
وبحسب أبي سمير: “اليوم الذهاب لأوروبا يحتاج لتكاليف كبيرة، وحتى لو استطعت تأمينها عبر بيع كل ما أملك، فحتماً لن أتحمل أنا وزوجتي صعوبة الرحلة؛ لأننا نعاني عدة أمراض مزمنة”.
لم تكن الهجرة حدثاً جديداً على السوريين؛ فقبل اندلاع الثورة في 2011 كان آلاف السوريين والسوريات يغادرون سوريا، غالبيتهم من الشباب، ويتوجهون لدول الخليج العربي لأجل العمل وتحسين أوضاعهم المعيشية، وليستطيعوا تأسيس حياتهم في الدولة ذات الحزب الواحد والقائد الواحد المسيطر على كل مفاصل الحياة.
وكان الشباب السوري وقتها يعاني من البطالة والفساد والمحسوبيات في كل شيء، والشباب الذكور يعانون من الخدمة الإلزامية التي كانت مصممة لتذيق من يذهب إليها جميع أنواع الذل والإهانة. ومن هؤلاء الشباب كنانة هنداوي (30 سنة) وهو ناشط إعلامي من جبل الزاوية قال لمجلة طلعنا للحرية: “غادرت سوريا لدولة قطر للعمل عام 2011 قبل اندلاع الثورة بعدة أيام، وبقيت هناك إلى عام 2015، حين قررت العودة إلى سوريا للمشاركة في الثورة السورية على النظام الذي كان سبباً بغربتي لسنوات بعيداً عن أهلي وبلدي”، ويتابع: “الكثير يستغربون من عودتي إلى البلد التي يحاول الكثير من أهلها الهجرة منها بكافة الأساليب”.
وبحسب تقرير منظمة الهجرة العالمية لعام 2020، تصدرت سوريا قائمة الدول المصدرة للاجئين حول العالم. وأشار التقرير إلى وجود أكثر من 6.6 مليون لاجئ سوري، يتوزعون على أغلبية دول العالم، ولكن النسبة الأعلى منهم تقيم في دول الجوار السوري: تركيا والأردن ولبنان، بالإضافة لدولتي مصر وألمانيا.
صحفي سوري مقيم في إدلب، يدرس في كلية العلوم السياسية
مهتم بقضايا حقوق الإنسان والتهجير القسري في سوريا