تزعجني الأصوات المثبّطة التي تنطلق لتقول إن الثورة ليست موجودة، وأننا إزاء مشهد من العبث الدموي والاقتتال الطائفي والحرب الأهلية. ويستفزني بعض دعاة الاستكانة بشتم “الحرية” كقيمة إنسانية لأن مناداة السوريين بها قد أدت لخراب بلدهم وتشريد أهلها. ويتفق الفريقان أن النظام قد انتصر. فالأسد ما يزال في سدة الحكم في سورية بكل طائفيته وعمالته وبطشه وجبروته، بينما تقطعت السبل بمواطني سورية في البرّ والبحر وهم يبحثون عن ملجئٍ من المحرقة التي تجري في بلدهم.
لكنني أرى خلاف ذلك تماماً. الثورة انتصرت والنظام سقط منذ أول صرخة وكل ما حصل بعد الشهور الأولى من انطلاق التظاهرات وحتى اليوم بعد خمس سنين هو مجرد تداعيات محلية وإقليمية ودولية لحقيقة سقوط نظام أداتيّ عميل، ومحاولة المتضررين الإقليميين والدوليين تطويق هذا النجاح وإبقاء النظام على قيد الحياة، حتى وإن عن طريق التنفس الاصطناعي.
عندما نفكر بسورية فنحن نفكر بذلك العمق الإنساني والحضاري الممتد لاثنتي عشرة ألف سنة. هذا العمق الذي قطعته عائلة طائفية رجعية حاقدة فكان لا بد من تصحيح المسار ببروز جيل شجاع مستعد لدفع التضحيات لرد الاعتبار لبلده وتاريخه، ووضع قطار الحضارة في سورية على السكة من جديد. إن هذا الجيل هو جيلنا نحن. نحن اليوم نموت ونُشرّد ونُقتَل ونُحاصَر ونجوع ويجتمع علينا شذاذ الآفاق من كل فجٍ عميق ليحاصرونا ويقتلونا. نحن الجسر الذي ستعبر عليه مئات الأجيال القادمة إلى العلا بعيداً عن الظلم والقمع والفساد حيث يرتقي شعب سورية من حضيض الطائفية إلى يفاع المواطنة؛ من جحيم الإقصاء إلى جنة المشاركة، ومن مرارة الإهانة إلى حلاوة الكرامة. إننا الجيل الذي صنع ثورةً سماها العالم “ثورة الكرامة” ويحق لنا أن نفتخر بصنيعنا ونرفع رؤوسنا لا أن نجلد ذواتنا ونتهيّب الارتدادات التي نجمت عن كبير أفعالنا.
نعم مات نظام الأسد الشمولي الطائفي القمعي الحاقد الفقير المتخلّف… مات ولم يبق إلا تشييع جثمانه. مات منذ أول صرخة ولم يبق مواطن سوري تعرض للإهانة على يد عنصر مخابرات إلا ونزل للشارع وصرخ بتحد “يلعن روحك يا حافظ”. هذه الصرخة على فجاجتها هي رد اعتبار لكرامة ما برحت تُهدر لستين سنة حيث ماتت أجيال وأجيال حنَقاً دون أن تتمكن من ردها لبيت الأسد. نحن رددناها لهم. بضاعتهم رُدّت إليهم بفضل الثورة. واليوم يوصَف بشار الأسد من باب الاستهزاء بأنه مختار ركن الدين. فالرئيس الذي أباد والده مدينة حماه في الثمانينيات وأباد هو مئات البلدات والقرى في هذه الثورة لا يجرؤ على مغادرة الحي الذي يقيم فيه بالعاصمة دمشق. والثوار الذين يطوقونه من كل جانب بإمكانهم إيصال قذائف الهاون والصواريخ إلى أي مكانٍ يوجد فيه في دمشق. فهل النظام ما يزال قائماً فعلاً؟ هل هناك سوري على وجه الأرض اليوم يتخيّل أن عنصر الأمن ممكن أن يصفعه كفاً أمام زوجته هكذا بسهولة كما كان الوضع عبر ستين سنة؟ طبعاً لا يوجد. فكيف نقول إن الثورة لم تنجح؟ هل هناك واحد منا اليوم يلقّن أطفاله عشرات الكلمات والعبارت المحظورة ويهمس في أذنه “لا ترفع صوتك الجدران لها آذان”؟ هل هناك مثقف أو سياسي أو ناشط أو كاتب يستبطن ذلك الحمل الثقيل من الرقابة الداخلية على كلماته وآرائه خشية أن يُشحَط كالصرصور ويُلقى في أعمق قبو من أقبية التعذيب والتنكيل؟
هل تمكنت جبهة النصرة أو داعش أو غيرها من تنظيمات القاعدة التي زرعها اللاعبون في الشأن السوري من خنق الصوت الذي صاح “حرية” في آذار عام 2011؟ قد أوافق أن الصوت في كثيرٍ من المناطق قد صار همساً وموارباً ومتنحّياً مؤقتاً بعد أن أدرك النشطاء أن هذه التنظيمات هي حصان طروادة النظام في المناطق المحررة، لكن الصوت خرج والجوهرة التي تجمّعت فوقها الأوساخ ما تزال تلمع بقوة والسوريون الأحرار لا يخطئون لمعانها كلّ على قدر حظه من الانعتاق الذي بات يرفل فيه. إنني أزعم أن حتى تلك التنظيمات الطائفية البغيضة سواء السنية منها أم الشيعية هي فرصة نادرة في التاريخ لتجديد دماء الفكر عند السوريين. السوريون شهدوا أهوالاً وظواهر وهزاتٍ وزلازل جعلتهم يضعون أنفسهم وهوياتهم الفكرية والقومية والدينية تحت مبضع البحث. هم بصدد اكتشاف ذواتهم وتمحيص معتقداتهم ومساءلة تاريخهم وعلمائهم ومشايخهم ومفكريهم. كم مثقف كبير سقط مع النظام اليوم وصار رمزاً للعار بعد أن اعتقد طويلاً أنه منارةً للفكر؟ أليس هذا التطور وحده ثورة كبرى؟ هل حصل في التاريخ أن تحولت كوكبة من المفكرين والشعراء والفنانين إلى زمرة من الموتورين الناعقين فانحطوا في نظر شعوبهم لأنهم وقفوا مع الظالم وانحازوا لصاحب السلطان؟
الثورة السورية أهانت نظام الأسد وأجرت له عملية خصاء مؤلمة. والسوريون أدركوا ثأرهم من الظالم كلّ على طريقته.
الثورة انتصرت والصنم انهار والنظام سقط في الأرض وفي السماء. أما قضية تشكّل الدولة الجديدة فهي مسألة وقت.. ليس إلا.
خرّيج قسم اللغة الإنكليزية – جامعة دمشق. حاصل على دبلوم الدراسات العليا من جامعة البعث في حمص، كاتب ومترجم من أعماله:
الفارس المزيّف- مجموعة قصصية.
أمريكا الامبريالية- (ترجمة عن الانكليزية)
عمل خلال الثورة السورية ناطقاً باسم لجان التنسيق المحليّة ومراسلاً لقناة أورينت وموقع كلّنا شركاء.
وفي عام 2014 عمل مراسلاً في وكالة مكلاتشي الأمريكية من اسطنبول.
يقيم الحمّادي في فرنسا منذ أواخر عام 2019 ويعمل ككاتبٍ وصحفي مستقلّ.