إباء منذر
كنت في الخامسة من عمري حين أدخلتني أمي روضة تابعة للاتحاد النسائي، كثير من أطفال جيلي سجلوا في روضة “البراعم” لكنني اختلفت عنهم، اعتقدت لفترةٍ طويلة أنّ في ذلك امتياز ما، وكنا كأطفال نشارك في أنشطة تابعة لهذا الاتحاد المجهول بالنسبة لي، فهمت لاحقاً وبالتدريج أنّ للنساء اتحاد في بلدي من المفترض أن يحمل همومهن.
في مراهقتي كثيراً ما كنت أنصح صديقتي التي تتعرض للضرب من قبل أهلها لزيارة هذا الاتحاد، كانت تضحك ساخرة وأنا أحاول إقناعها بما أتخيله عن هذا المكان: أخبرها أنه معني بكل النساء في سوريا، صوَرته كأحد مؤسسات المدينة الفاضلة: “لا تقلقي جربي لن تخسري شيئاً” هذا ما أقوله لها، لكنها تضحك وهي تردّد: “شر البلية ما يضحك”، لا أدري لماذا انطبعت في ذهني كل هذه الصورة الوردية عن هذا المكان، لا أعلم بدقة من صاحب الغرس الذهني الأول لهذه الفكرة، مع أنه من الاتحادات القليلة التي لم تنعم ببرنامجٍ تلفزيوني خاص على القناة الأولى.
عندما ازددت وعياً أعدت المونولوج الداخلي لصديقتي، وفكرت بما كان يدور في ذهنها وأنا كالبلهاء أقنعها بجدوى الشكوى لاتحادنا نحن النساء، لعلها اعتبرتني خارج الزمان والمكان، أو ربما ابتلعت كلماتها خوفاً من التهمة الجاهزة لكل من لا يؤمن بمؤسسات الدولة: “إضعاف الشعور القومي، ومعاداة أهداف الثورة، والطعن بمنجزات الحركة التصحيحة..”، وهي من التهم التي كانت توجه للمعتقلين السياسيين.
تأخرت بعض الشيء في فهم “منجزات الحركة التصحيحة”، لا سيما الاتحاد النسائي الذي من خلاله قدّم النظام نفسه على أنه الأكثر انفتاحاً في المنطقة لناحية حقوق المرأة ودورها في المجتمع، وهو ما حاول تكريسه مؤخراً عبر تعيين امرأة (هدية عباس) رئيساً لمجلس الشعب السوري.
فشل قانوني
المؤسسة التي حملت شعارات حماية المرأة وتوحيد طاقاتها وإزالة القيود الحائلة أمام تطورها لم تفلح في تغيير القوانين بما يحفظ كرامة المرأة السورية ويحمي حقوقها، ربما قدمت بعض النصائح فيما يخص تحديد النسل والصحة الإنجابية، إلى جانب شريكتها في الأهداف (الهيئة السورية لتنظيم الأسرة التي تأسست في العام 2003) إلا أنّ كلتا الجهتين عجزتا عن انتزاع قانونٍ يعطي المرأة السورية المتزوجة من أجنبي الحق في منح أطفالها الجنسية.
كذلك الحال فيما يخص قانون -ما يُسمّى- جرائم الشرف، الذي يهدر دم النساء لمجرد الشبهة، ويضعهن تحت رحمة الذكور؛ فبعد حملات متواصلة من قبل جمعيات أهلية وحقوقية لإلغائه، تمّ إجراء بعض التعديلات الشكلية عليه مع الاحتفاظ بمضمونه، حيث نصّ آخر تعديل عام 2011 على الحد الأقصى للعقوبة (سبع سنوات) مع الإبقاء على العذر المُخفِف لمرتكب الجرم وفق المادة 548 من قانون العقوبات، مشرّعاً الباب أمام الجاني للتنصل من جريمته.
أما فيما يتعلق بالاغتصاب، فبدلاً من ردع المعتدي، وحماية النساء وخاصة القاصرات منهن، في مجتمع محافظ يحمل المرأة المسؤولية حتى وإن كانت هي الضحية، جاء القانون ليخفف عقوبة الجاني ويكتفي بالسجن لمدة عامين لمرتكب جرم الاغتصاب، والأنكى من هذا، أنه يتيح للجاني (الذكر) الحق بالزواج من الضحية. والأسوأ أنّ المشرّع السوري اعتبرّ أنّ فعل الاغتصاب يقع فقط على غير الزوجة!
حتى الآن لم ينظر القضاء السوري إلى المرأة على أنها كيان كامل؛ فشهادتها أمام القضاء ما زالت منقوصة، شهادة كل امرأتين تعادل شهادة رجل واحد وفق المادة 12 من قانون الأحوال الشخصية، وفي بعض الحالات (كما موضوع الزنى) لا تُقبل شهادة المرأة مطلقاً حتى لو كنّ خمسين امرأة! ويحق للرجل الزواج بأربعة بالاستناد إلى الشرع والقانون حسب المادة رقم 17 من قانون الأحوال الشخصية، وكذلك قانون التوريث؛ فللذكر دائماً حظ الأنثيين، ولا ولاية للأم على أطفالها في القانون السوري؛ فالولاية للأب ومن بعده ذكور العائلة، ولا يمكنها السفر بأطفالها دون إذن الولي، والطلاق التعسفي والإداري معمول به في القانون السوري رغم كل ما فيه من امتهانٍ لمكانة المرأة.
هذا غيض من فيض، رغم ما نصّ عليه دستور النظام الجديد الصادر في العام 2012 من مساواة في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل، ورغم وجود 30 امرأة في مجلس الشعب السوري من أصل 250 عضواً إلاّ أنهنّ عاجزات عن تمرير أي مشروع قانون يضمن حقوق المرأة الأساسية.
ورغم أنّ النظام السوري وقع عدداً من الاتفاقيات الدولية، وأهمها الاتفاقية الخاصة بإزالة كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) إلا أنه تحفظ على البنود الأساسية في المعاهدة بوصفها تتعارض مع قوانينه، ما أفرغ المعاهدة من محتواها، وجعل كل ادعاءاته عن المساواة بين الجنسين مزيفة ولا قيمة عملية لها.
دمية للاستعراض السياسي
استخدم النظام المرأة كدمية للاستعراض أمام العالم وإدعاء الحداثة، حيث دفع ببعض النساء إلى بعض المواقع الهامشية ضمن سلطة أمنية مخابراتية لا تعترف بأي حصانة لأي موقع مهما بلغ شأنه، فكيف هو الحال بعضوات مجلس شعب أو رئيسة اتحاد نساء أو عضوات قيادات قطرية في الحزب، أو مديرة مشفى…الخ، ظلّ تمثيل المرأة في المفاصل السياسية التابعة للنظام لا يتعدى كونه تمثيلاً كرتونياً.
مؤخراً، عمد النظام وتحت ضغط احتياجاته للدفاع عن سلطته، إلى الزج في النساء ليستخدمهن كوقود في حربه الداخلية ضد شعبه، حيث استطاع تجنيد ما يسمى (لبوات الدفاع الوطني)، بالمقابل استخدم النساء المعتقلات لديه للطعن في “المعارضة”، عبر بث اعترافات تحت الإكراه، عمّا سُمّي بـ”جهاد النكاح”، هذا ما تمّ تعريته مراراً من قبل وسائل الإعلام.
أما الحياة السياسية التي ظلت مغلقة أمام السوريين طيلة الخمسين سنة الماضية من حكم آل الأسد، فقد شهدت ظاهرياً بعض الحراك (تحت سقف الوطن)، بتشكيل عدة تجمعات وأحزاب يغلب عليها العنصر النسائي، ولا تعدو كونها واجهات كرتونية دون أي عمق شعبي أو وطني، ولم ينس النظام الدفع ببعض الوجوه النسائية للمشاركة في الوفد المفاوض لحل الأزمة السورية، لتكون الرسالة واضحة إلى عالمٍ تزداد حساسيته تجاه قضايا الجندر، أن لا تمييز لديه على قاعدة الجنس، في حين أن القرار الأول والنهائي سيعود للسلطة، والمرأة هنا ليست أكثر من دمية للاستعراض السياسي.
وفي المقابل لم يسمح النظام للجمعيات الأهلية بالعمل بشكلٍ جدي في قضايا المرأة الجوهرية، حيث تم حل (جمعية المبادرة الاجتماعية) لاقترابها من التابويات المحرمة كقانون الأحوال الشخصية وموضوع تعدد الزوجات.
عنف سافر
الصورة التي يروجها النظام لنفسه عبر نسائه الأنيقات أو المقاتلات، تجد نقيضها داخل المعتقلات؛ حيث الانتهاكات الصارخة التي يتعرض لها جميع المعتقلين بشكلٍ عام والمرأة بشكلٍ خاص بوصفها امرأة؛ حيث وثقت (المنظمة السورية لحقوق الإنسان) ما يقارب أربعين ألف حالة تعرضت خلالها المرأة للاعتداء الجنسي “بصورة ممنهجة ومتعمدة كسياسة عقابية سواء كانت بهدف الحصول على المعلومات ونزع الاعترافات، أو بغرض التلذذ والإذلال والتشفي بالترهيب بدافع ثأري وانتقامي من أحد أفراد العائلة” وفق ما أفاد تقرير المنظمة.
إلى جانب التنكيل الذي تتعرض له النساء خلال عمليات المداهمة، ووثقت المنظمة حالة اغتصبت خلالها الأم بحضور أفراد العائلة، وفي المنزل ذاته وثقت المنظمة اغتصاب أصغر البنات والتي لم يتجاوز عمرها 16 عاماً.
ووفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” هناك نحو 6580 حالة اعتقال تعسفي تعرضت لها المرأة السورية منذ بدء الثورة بينهن ما لا يقل عن 225 حالة دون سن الـ18.
الاتحاد النسائي بوصفه راعياً وحيداً لقضايا المرأة السورية أهدر حقوقها القانونية، ولم يسمح بظهور بدائل عن هذه المؤسسة السلطوية. وسياسياً تحولت المرأة إلى دمية لخدمة المصالح السياسية للنظام، أما المعتقلات فتعبق برائحة الموت والدماء لنساءٍ لا بد سمع بهن الاتحاد النسائي والتكتلات النسائية الأخرى التي أفرزها النظام لكن لا صوت ولا فعل لـ(لماريونيت) على المسرح السوري.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج