مجلة طلعنا عالحرية

الناشطون بين الداخل والخارج / ليلى الصفدي

حوار مع من بقي.. ومن غادر

====================

– “بس محسوبك جبان وبعرف حالي”

– يعني بتعتبر كل مين طلع جبان؟

– “احسن ما قول أناني، بعرف ما كان صح هيك… ما كان صح نسلّم من أول سنة الراية..”

ربما لا تعكس هذه الكلمات مشاعر محدثي فقط، انما هي مشاعر الكثيرين ممن تركوا البلد، لسنا هنا بصدد التقييم ولا المزاودة على من بالخارج ولا كذلك المدح والتهليل لمن بقي بالداخل، انما هي فسحة للفضفضة في مجال كثر فيه الأخذ والرد، ومحاولة لرصد أحوال الناشطين.. مخاوفهم وآمالهم في ظل الاوضاع التي آلت اليها الثورة، من عسكرة وتشتت وظهور جماعات متشددة اخذت تضيق الخناق على الناس مثلها مثل النظام أحيانا..

يكتب الناشط والإعلامي “مصعب الحمادي” الذي غادر حماة قبل ايام: “غادرت سوريا إلى أجلٍ غير مسمى بعد أن صرنا نرزح تحت احتلالٍ جديد وتحولت البلاد إلى حفلة تنكريّة كبيرة الكلّ فيها يمثل على الكل. وما لحاقي بغيري من نشطاء سبقوني في هذا القرار خوفاً من قتل البغاة لي، فالموت كان ماثلاً أمامي منذ بداية الثورة، إنما قمت بما قمت به لأن الحرية التي مات رفاقي لأجلها أصبحت كالزنا.. خطيئة لا تغتفر.. والديمقراطية التي خرجنا ننادي بها صارت كفراً وزندقةً. وصار التعبير عن الرأي المخالف جريمة، وجاء من يكمّ الأفواه ويخنق حرية التعبير كنظام بشار الأسد.. بل أشدّ”.

ويضيف واصفاً اختراق النظام للثورة: “لقد خرج المنافقون في هذه الثورة وصار أواخر الثوار يلعنون أوائلهم، وبات عملاء النظام مجاهدون لا يُشق لهم غبار، واحتل تنظيم القاعدة المناطق التي حررناها بدماء شهدائنا، ووقع المدنيون تحت شتى صنوف الاضطهاد السياسي والديني على أيدي شذّاذ الآفاق وصنائع المخابرات الإيرانية من داعش وأخواتها”.

ترى كيف سيكمل دربه الناشط الإنسان.. الذي حلم بدولة مدنية ديموقراطية.. ورفع اللافتات والزهور ليتفتح ذاك الحلم على هذا الواقع..

أسأل الناشط “أسامة نصار” لمَ لم تغادر حتى الآن؟.. فيجيب أن مكان السوريين هو سوريا، و “تركها هو ما يستدعي السبب وليس البقاء فيها.. ومعها! ليس عندي طموحات دراسية أو في العمل (البزنس) وطبعاً ولا في السياسة. ربما أغادر عندما تنفد مدخراتي وأعدم أي مصدر للكفاف داخلها أو لسبب شخصي آخر”.

وفي الشخصي تفصل يارا أسباب مغادرتها: “غادرت لاشتغل بالدرجة الأولى، أنا صحفية. ولكن للعديد من الأسباب لم أكن أعمل كصحفية ميدانية، وبالتالي لم تكن الصحافة التي أكتبها هي الأهم في ذلك الوقت.

غادرت أيضاً لأنني شعرت بالقلق من عمليات الخطف والتفجيرات. وغادرت كأحد أضعف أشكال الهروب، هرباً من فكرة “الحرب”. اليس هذا ما نفعله جميعاً. نهرب من الأشياء التي نخافها؟! كنت أرى مظاهر غير طبيعية تقتحم العاصمة دمشق، وجنوناً في محاولات الإنكار والتمسّك بأبسط مظاهر الحياة الطبيعية والادعاء أنّ الأمور بخير. أعتقد أنني حاولت الهرب من هذا. ومن الإحساس بالعجز. مقاومة الإحساس بالعجز بمزيد من الهرب.

أما “سميرة” فتجيب بعفوية السوريين “كيف نترك ونحن منذ عقود ننتظر تحقيق هذا الحلم؟!”… “لما قامت الثورة حسيت هلق دوري، كانت رح تكون احلى ثورة بالعالم لولا تدخل الدول، وحياد الضمير العالمي. بعد سنتين من الموت اليومي، وتدمير البيوت فوق اهلها.. انا اليوم بالغوطة المحاصرة عم شوف الموت والجوع والقهر والحرمان.. بس بيبقى في باب للأمل بوجود هالشباب.. شباب عم يشتغلو من خارج الغوطة ومن داخلها وبحس معهم يومياً بتجدد الثورة. وفي ناس طلعوا وهن كانوا من اوائل المتظاهرين السلميين واعتقلوا اكثر من مرة وتعرضوا لتعذيب وحشي، ما بحس ابدا بقدر قول لناشط ليش طلعت، يعني خلينا نخلص من قصة انو كل البقيانين هني الثوار وكل شي طلع هني خلص دورهن”.

لكن ربما تغادر سميرة قريباً.. فزوجها الملاحق من اوائل الثورة قد غادر دون ان يحقق حلمه بالعمل من بلده المحرر.. فمدينتهما “المحررة” الرقة قد احتلت مجدداً: “ما فكرت بيوم من الايام اطلع من البلد، قضيتي هيي الخلاص من النظام، والثورة ثورتي وهيي الحلم المنتظر. ولما دخلت داعش ع الرقة اكيد ما رح اقدر روح وحاربها ولا بقدر وقف بوجه السلاح ولا بقدر رد عليها بطريقتها لدافع عن وجودي وحياتي او حياة اهلي، رح اترك البلد وقتها. ورح حس انو هزمتني شياطين الارض. السلامة لمن بمقدوره الدفاع عن البلد واهلو وعن حقي وحق الكثيرين بالعودة”.

اسامة أيضا يتفق مع سميرة ولا يفضل الحكم على من خرجوا:

“من الصعب إطلاق قاعدة نهائية، لكل معطياته وظروفه الخاصة.. هناك من عملوا للثورة وللبلد وهم خارجها أكثر من كثير من الباقين فيها أو حتى العائدين لها.. والعكس موجود أيضاً.

من الأفضل لنا أن نلتمس أعذاراً للجميع؛ المغادرين والباقين. ولا ينبغي النظر إلى المسافرين كمهزومين أو منسحبين بالعموم. فمسألة (الداخل والخارج) صارت مادة إضافية للمزاودة الكريهة. الأفضل هو الأكثر نفعاً وفاعليةً”.

وبينما يدين الكثيرون خروج النشطاء من الأقليات التي لم تتضرر جدياً من الثورة وحصولهم على اللجوء والإقامات في الدول الأوروبية يخبرنا العديد منهم أن خروجهم هروباً مضاعفاً.. من النظام ومن المجتمع أيضاً.. !

“حسن” من “الأقليات”.. ينوي المغادرة ويفتش عن مخارج على الحواجز والحدود.. سألته لماذا ولمن ستترك البلد: “بدي غادر لأني مو قادر أمن لقمة العيش بسبب الغلاء.. بسبب الملاحقة الامنية المستمرة.. بسبب القمع للحرية بكل اشكالها.. لأني مهدد بالاعتقال وما قادر اتحمل معاناة السجون لمرة رابعة.. وفي مليون سبب ومن اهمها وضع المحافظة الموالية للعظم مع النظام ونفور الناس من حوالينا ومعاداتهم النا والسجن الكبير يللي حطنا النظام فيه.. ليش دخلك يللي هون شو عم يشتغل؟!”.

بينما يبدو الإعلامي “مهند” الذي غادر من قبل أكثر اقتناعاً بانخراطه ومحيطه في الثورة:

“الملاحقة الامنية هي السبب الاول والاكبر التي دفعتني للخروج، فقد داهم الامن منزلي بعد خروجي بـ 3 ايام فقط من المعتقل… ومن الاسباب الاخرى هي فقدان القدرة على المتابعة بشكل مدني على الارض بسبب سطوة السلاح كعامل اساسي في الثورة. حتى ان عملنا كإعلاميين داخل سوريا بات مهددا من المعارضة كما من النظام، والشاهد على ذلك هو حالات التصفية والاختطاف للعديد من الاعلاميين من قبل تيارات قد نختلف معها في اسلوب العمل والتغطية الاعلامية”.

بالمقابل يؤكد الدكتور وائل دغمش الطبيب والمعتقل عدة مرات اثناء الثورة من منطقته الساخنة المليحة بريف دمشق أنه لن يغادر: “لانو نحنا يلي فتّحنا الناس على الحرية والثورة فكيف بدنا نطلع ونتركهن. لما بتكون مصدر ثقة للناس ما فيك تتركهم، بالإضافة لحاجة الناس لمهنتي كطبيب. اريد السفر لكني لا استطيع ان اترك الناس ما دامت بحاجة لي”.

مهما يكن.. وبالرغم من التماس الجميع الأعذار لكل من غادر يبقى خيار البقاء رغم الظروف هو الأكثر صدقاً وشجاعة وليس من السهل مساواته بالخروج.. ذلك بالرغم من كل ما يقال وبحق عن العمل المهم الذي يؤديه الكثيرون من الخارج في خدمة الثورة..

ربما تلخص إجابة الناشط عبد الله الخطيب من مخيم اليرموك الفارق بين الحالتين.. بين أن أكون.. أو لا أكون.. على حد تعبيره:

في كتير اسباب بتخليني اتمسك بهل البلد، السبب الاول اني فلسطيني والسبب التاني اني سوري ولدت بالمخيم وعشت وكبرت بحاراته.. المخيم بعني الي الوطن المفترض والتخلي عنه بيشبه التخلي عن الوطن الام عند اول مشكلة… بعد الثورة ارتبط مفهوم المخيم عندي بالثورة من جديد وخاصة بعد اول شهيد حسيت الخروج من سوريا ومن المخيم هو خيانة لدماء الشهداء وخيانة لفكرة الثورة، انو ثورة بهالعظمة وهالحجم ما اكون جزء منها. بقيت لأنها اول فرصة بحياتي راح ارد الظلم الي عشتو طول حياتي، لاول مرة فيني احكي “لأ” بصوت عالي، لو تخليت عن هالفرصة بعتقد انو كان راح عيش طولي عمري وراسي تحت واتعود على كلمة خراس.. بقيت بالبلد لأنو في كتير ناس بقيت مالها احسن مني ومالها اشجع مني وقررت تبقى.. بقيت بالبلد لأني ما ممكن استوعب انو اسمع كلمة قصف على مخيم اليرموك او على محيط مخيم اليرموك وانا برا وبدي اسأل واحد جوا شو الاخبار..! بعمري ما بتوقع اكون بهالمحل. بقيت لأنو في تجربة عم عيشها صعب اعيشها باي مكان اخر، في دروس يومية عم اتعلمها صعب اخدها بالسوربون او الاكسفورد .. بقيت لأنو في ناس حتى لو كان عدد واحد بتعتبر مصدر امل وتفاؤل وبهالحالة بطلت ملك حالي وبطلت صاحب قرار.. القرار صار للناس او لهالواحد. بقيت لأني نرجسي.. وبقيت لاني شفت مقاتلين على الجبهات كلن امل بالنصر.. مقاتلين ما بفهمو علم اجتماع ولا فلسفة ولا بيعرفوا يقرأوا بس بيعرفوا يدافعوا عن الحرية بطريقتهم.. هدول كانو بحاجة اكون جنبن لنكمل بعض هو وانا..

بقيت لأن قرار البقاء ارتبط بأن أكون او لا أكون… وقررت أكون أبو شملة الغوراني..

بقيت لأني كنت خايف من لحظة يسألني ابني فيها عن الثورة السورية وقلو انا كنت برا..!

Exit mobile version