بشرى البشوات
الخوف هو المفتاح؛ خوف من أن لا أفهم، خوف من الفشل، من الوحدة، ومن الأمكنة العالية.. خوف من الموت، وتحمل المسؤولية، من أن أتألم من تجربة ما، من السخرية بي، من أن أُهان، من أن أكون مبتذلًا، أو غبياً، أو ثرثاراً، أو عادياً، خوف من تضييّع الحياة بالعيش ومن اكتشاف ذلك بعد فوات الأوان، من التيقن المتأخر..
“الخوف إحساس بنقص في القوة” الشاعر حسين البرغوثي..
وأريد أن أضيف إلى ذلك الخوف، الخوفَ الذي مررت به وعشته ربما لثوانٍ معدودة.
الخوف من الأحلام؛ الخوف من حلمي الشخصي، ذلك الحلم الذي ساقني دون قدمين إلى قعر الهاوية، فإذا كانت الأحلام تنتج عن الصراع النفسي بين الرغبات اللاشعورية المكبوتة والمقاومة النفسية التي تسعى لكبت تلك الرغبات، يلعب الحلم دور (حارس النوم) حسب تحليل فرويد، فإن حارسي ليلة البارحة نسي أن يرنّ الجرس، ولم يقم بعمله كما يجب.
تُقدم لنا الأحلام في كثير من المرات حلولاً وتعمل على إرجاع شيء من التوازن إلى شخصياتنا، حسب التحليل النفسي، لكن ذلك لم يحصل.
في أواخر صيف 2012، في حي من أحياء دمشق الجنوبية حيث بيت أهلي، سقط صاروخ على مبنى ملاصق لنا، أضاعت يومها زوجة أخي رضيعها وخرجت صارخة من بين الغبار: “ولدي، ولدي..”! رجعت أمي وأحضرت الصغير من فراشه.
مضت السنوات وكبر الولد، وظلت هذه القصة محل تندّر بيننا وكيف أن رهبة الموت أو كما يقال “حلاوة الروح” قد أنستها صغيرها الذي ينام في حضنها.
البارحة كنت أراني في الحلم أساقُ إلى الموت مع المئات، يحاصرنا القتلة من كل جهة، أرتعد ولا أفكر إلا في شيء واحد، إذا ما رفعتُ رأسي وسقطت عيني في عين أحد هؤلاء الجنود سيختارني حتماً، وتكون نظرتي بمثابة أمرٍ له: ركّز ثم صوّب وأطلق…
“يتذكر القاتل فقط نظرة القتيل”، يقول أحدهم “لو أن المقتول امتلكها حين كان حيّاً ما كان قتل” وأقول: يبقى ذلك حلماً.
دراسة الأحلام وجدت أثاراً لها على الألواح الحجرية التي ترجع إلى سومر (سومر أقدم حضارة عرفتها البشرية) واعتقدت بعض الشعوب مثل الإغريق بأن الأحلام هبة من الآلهةِ لكشف معلومات عن البشر وزرع رسالة معينة في عقل الشخص النائم.
فأيّ رسالةٍ تلك التي خصتني بها الآلهة وأرادت زرعها في عقلي وأنا ماضية جهة الموت؟ إذا كان الموت هو فن مثل أي شيءٍ آخر، فإنه يبدو كالجحيم وقد يبدو جحيماً حقيقاً كما تقول “سيلفيا بلاث”.
إذاً، فبمقدورنا أن نلمس هذه الحقيقة ونتحاور معها كما حاورها محمود درويش، سلسلة التخيلات التي تحملها الأحلام وتأتي أثناء النوم تختلف في عقلانيتها وترابطها، هي وسيلة تلجأ إليها النفس لإشباع رغبات مكبوتة، وخاصة تلك التي يكون من الصعب إشباعها في الواقع.
كيف تُشبع الموت واقعياً؟! هل كنت أبحث عنه؟.. عن الموت أتحدث.
في الأحلام يشاهد الإنسان رغباته قد تحققت بشكل أو بآخر في صورة أو مسار أو موقف معين، لكن الرغبات في الأحلام شاحبة مواربة، بحيث لا يعي الحالم نفسه فحواها، لذلك يرى كثير من علماء النفس بأن الأحلام شبيهة بتفكير المجانين.
إذاً ماذا لو أصابني مَسٌّ ما؟! وأردت أن أمضى دون وصايا، دون أن “أتحدث عن الأزهار الجميلة وحولي كل هؤلاء البشر يُقتلون”.
أمضي.. وحقيقةً حدث هذا دون أن أعي بأنني أمّ لطفلين.
لقد نسيت وأنا أساق إلى الموت بأنني أمّ، تماماً كما حدث مع زوجة أخي مع فارق التوقيت؛ فأنا نسيت الآن بعد كل هذه السنوات من القتل، أما هي فقد نسيت بعد أشهر قليلة على بدء المحرقة السورية.
لم يكن لدي ذاكرة في تلك الأجزاء من الثانية التي تشكل أكبر الأحلام حدثاً.
كل الذين تحدثوا عن عودتهم من الموت، تحدثوا عن الروح حين تبقى، عن الجسد البارد المسجى.. تحدثوا عن الروح تراقب وتسمع!
لكن أن تعيش تجربة بانتظار ثانية الموت، تلك اللحظة بين نظرتك ونظرة قاتلك، حواسك، ماضيك، مستقبلك، أنتَ وهو؛ هو قاتلك لا محالة وأنت أعزل وأبيض تشفّ تشفّ، ولكنك تُرى ولا تَرى!
وهكذا تموت! تموت دون ضحكة من تُحب، دون وجه أمك، دون الأصدقاء، بعيداً عن الحبيبات.. وحيداً ومعك كل هذا الحشد من المقتولين!
لذلك ومن الآن علينا ألا نحزن لموت من ينظر في عين قاتله، فلا ذاكرة ستكون معه!
لن يحمل وجوهنا، ضحكاتنا، شجاراتنا، صحبنا..
سيموت ومعه وجه واحد فقط… وجه الدم!
أسأل الآن: يا رب.. كيف مات كل هؤلاء السوريين طوال السنوات الماضية دون ذاكرة؟!
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج