لولو قط صغير كان يشاركنا سكننا ومكان عملنا وحصارنا. تجاوز معنا موجات الصقيع والثلج، وتعلّم مثلنا أن يأكل أي شيء يقيم صلبه ولو عافته ذائقته. أصيب أكثر من مرة بشظايا القصف الذي لا يوفّر حجراً ولا بشراً.. ولا حيواناً! نتفقده بعد كل غارة للطيران أو صلية لقذائف المدفعية، ويخرج غير مرة من تحت الأنقاض معفّراً ورشيقاً كما شأن القطط.
وفجأة مات!
هكذا ببساطة. وجدناه مغمضاً لآخر مرة على باب المكتب، دون أن نحصي إن كان استنفد أرواحه السبعة.. أو التسعة!
أمام جثة (زميل السكن) المتخشبة، اختنقت الغصّة في صدري، وتخللني صقيع سام.. لازمه شعور آخر بالذنب لأني حزنت؛ خجلت من استغراقي في الكآبة على قطة (بهيمة) فيما تنعي البلد آلاف الأطفال والآباء والأمهات والشباب، يرتقون شهداء بالجملة والمفرق.
تنازعتني خواطر متناقضة؛ من شعور بالأسى على ما (بل على من) كان يمثله لنا هذا القط المشاكس الذي غاب إلى الأبد. أو محاولة إخفاء الألم لمجاملة من فقد عزيزاً.. من البشر.
استغربت من تقبل ابنتي الصغيرة للمسألة وكأنها تفهم ما لا أفهمه: (لولو مات)! وانتبهت أن الطفلة ذات الثلاث سنين تعرفت على الموت من خلال والد صديقتها وأصدقاء والديها.. قبل أن نجد الوقت لمقاربة الفكرة لها من خلال الأشياء أو الحيوانات.
كنت قد تعلّمت أنه لا ينبغي كبت المشاعر ولا محاكمتها. فليس هناك مشاعر خاطئة. فعدت لتبني حزني على القط؛ نعم أنا زعلان ومن أجل لولو (الحيوان).
قبل مدّة انتشر أكثر من مقطع يرصد وحشية جنود نظام الأسد، منها واحد لمجموعة من الجنود والشبيحة يقومون بإعدام مجموعة من البغال أو الحمير رمياً بالرصاص بلا سبب. ومقابلها صور كثيرة لمقاتل ثائر يطعم قطة صغيرة مثلاً أو لناشط يحنو على حيوان ضعيف.
وقبل الثورة حكى لي صديق كان معتقلاً في سجن صيدنايا العسكري كيف كان السجانون يتسلّون -إذا فرغوا من التنكيل بالمعتقلين- بتعذيب القطط سيئة الحظ التي تصل إلى السجن. يقتلونها شنقاً أو شبحاً أو حرقاً بعد إغراقها بالكاز! ربما ليشحذوا فائض السادية الذي تربّوا عليه.
لهذه الصور دلالة ليست عبثية؛ فالتفوق الأخلاقي للثورة هو وقود لها وضامن لمستقبلها.
صحيح أنه لا يوجد سوري واحد لم ير بعينه جثث أشخاص يحبهم أو يعرفهم، أو أشلاءهم أو صوراً (مسربة) من معتقلات النظام لما تبقى من هياكلهم بعد قتلهم تجويعاً أو تعذيباً… وأكثر من ذلك!
هل علينا أن نكفّ عن الإحساس؟ هل ترتفع عتبة الإحساس عند التعرض الشديد أو المتكرر للألم؟ الجواب (الطبي) هو نعم، لكن ذلك لا يعني أن نتماشى معه ونكفّ عن الإحساس بالآلام الأقل، خاصة ما يتعلق بوجداننا. فالإحسان كُتِب على كل شيء.. ولو توهّم كثيرون أن الرفق بالحيوان هو مرحلة متقدمة وكمالية من إحقاق العدالة وحقوق الإنسان، وقالوا بأن الإحسان لغير البشر ترف زائد لا مكان له أمام مزيد من المجازر والبلاوي التي تطال الناس الأبرياء في هذا العالم غير البريء.
لا يريد الطغاة إلحاق الألم بالمستضعفين لغاية الألم نفسه، بل يرمون لما بعد ذلك من تبلّد يصيب المتألّمين فيكفّون عن الإحساس و(يتحيونون) فيسهل أكثر التحكم بهم كقطيع مدجّن.
لذلك تصير مقاومة هذا التبلّد جزءاً مهماً من المعركة في مقاومة الطغاة والطغيان.. المقاومة -هذه المرة- حزناً!
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.