Site icon مجلة طلعنا عالحرية

المغتال والمغتال / نبيل شوفان

في بحثي عن أصل كلمة اغتيال في اللغة العربية استوقفني أن اسم الفاعل والمفعول من الكلمة هو “مغتال” فالقاتل مغتال والمقتول مغتال أيضاً، ويبدو أن في ذلك حكمة.. أو أكثر.

لم أجد تعريفاً حقيقياً للاغتيال. ربما نستطيع القول إنه فنّ حربي، أو علم أمنيّ، أو جريمة كاملة.. يمكن القول إنه وشم -كصفة دونية من الوسم- على صدر منفذ الاغتيال (المغتال) لإرضاء الذات التابعة لجهة معينة تستهلكه، وفي الغالب فإنه يُغتال بدوره لمسح آثار الجريمة، قبل الوصول إلى محاكمات تزعج من يقف خلفه، أو أنه يمكن أن يكافأ ويخفى، وهو أيضاً -أي الاغتيال- إلغاء للطرف الآخر (المغتال) ليذهب إلى المشرحة ثم إلى المقبر، ويضيع على الأغلب خصمه وحقّه وما يحمله من ملفات أو أفكار تعيق تقدم خصمه.

ينتقل العالم اليوم بالسوريين لمراحل جديدة ومتطورة من الموت. بدءاً من القتل اليومي بالرصاص، إلى القتل اليومي بالمعتقلات تحت التعذيب، إلى القتل اليومي بالبراميل، إلى القتل بالغرق، إلى القتل اليومي السرّي الاستثنائي وسط خطاب سياسي تغالبي بين أصدقاء الثورة وأعدائها؛ لتنتقل حرب الأرض التي أتقنتها الفصائل المعارضة وبرعت فيها ضدّ جيوش إيران وروسيا وحزب الله والنظام السوري إلى حرب الظلال والعنف الناعم والصامت، وفي هذه المرحلة تختل العلاقة بين الرغبة والقانون، فالمغدور هو شيطان بالنسبة للقاتل وهو “شيء رخيص” بالنسبة للغيمة العالمية التي تحاول أن تمطر نار الثورة لتخمدها.

إن الحرب التي يراها السوريون حرباً وطنية تحررية هي نفسها الحرب المقدسة لدى أعدائهم ضدّ “إرهاب” السوريين، ولكل حرب معلنة حرب سرية باردة، وبالتالي لها ميثولوجيتها الخاصة ورمزيتها وضروراتها، وفي حروب الظلام يكون المقتول معلوماً ومعروفاً، ويكون القاتل مطلقاً ونرجسياً ومثالياً ومنفلتاً، يحقّ له استحضار كامل شبقه من أجل التصفية الكاملة للعدو الشيطان والغريب، ويبقى هذا القاتل مجهولاً، وتؤجل حقيقته حتى تفقد أهميتها اللحظية، ويسدلَ الستار على الحقّ ولا يحدث العقاب غالباً.

بعيداً عن العنتريات الثورية، فنحن أمام مقاومة عالمية لثورتنا، يضع فيها خبراء الحروب كامل خبراتهم المخيفة لتنظيف الفوضى التي أثارها السوريون في العالم، حتى أصبحت حدود الاتحاد الأوربي على شفا السقوط، ونظام مجلس الأمن محلّ تشكيك ودعوات لإعادة صياغته، لذا فالعالم خائف ليس من داعش، وإنما من ثورة السوريين التاريخية الآيلة إلى النجاح، والتي فشل بشار الأسد بإخمادها بسرعة قصوى كما وعد العالم.

تتدخل روسيا بشبه وكالة غربية لتنظيف الفوضى التي تسبب بها حليفهم “الفاشل” تحت عنوان التمهيد لحلّ سياسي، لكن الأمور تزداد سوءاً وتعقيداً. ووسط زحمة الحرب؛ فعلى الأجهزة الأمنية العالمية التخلص من أي عود ثقاب يضمن -مستقبلاً- اشتعال نار لا تنطفئ جذوتها.

أبو الفرات وحسين الهرموش وقادة أحرار الشام وعبد القادر الصالح وقادة درعا وغيرهم الكثير (استطعت حصر أكثر من مئتي عملية اغتيال تمت في عام 2015) كل هؤلاء كانوا نتيجة ثورة. بعضهم مفكرون، وبعضهم إعلاميون، وبعضهم أناس عاديون لهم رمزية خاصة، وبعضهم شجعان يحملون مبدأ يستحيل تنازلهم عنه، وبالتالي فنتيجة انتهاء هذه الثورة هي قتلهم.

في حالة زهران علوش ليس من الأهمية بمكان إن كان الرجل بطلاً أو مجرماً، لا وقت للانتظار ومحاكمته بمحكمة عادلة، إن قتله ضرورة أكثر من العدل نفسه، لم تجد روسيا صعوبة حين اعترفت باغتيالها قائد جيش الإسلام، ولعله يحمل فكرة ما تعيق تقدمهم، وذلك حدث مع “ليون تروتسكي” صاحب مصطلح الثورة المغدورة والذي تمت تصفيته من قبل جوزيف ستالين باسم الدولة الثورية.

في حالة القنطار أيضاً ليس مهماً مع من يقاتل ضدّ من؛ فـ”إسرائيل” تستغلّ الفوضى أحسن استغلال وتعدم من لم تستطع إعدامه بمحكمة، وتفوت على السوريين محاكمته.

أما في حالة الجرف فقد نَعَتْه صفحات مؤيدة للنظام ووصفته بـ “بالشهيد “ حالها حال الصفحات المعارضة، ليتبين ما كان يجسده من حالة جامعة هذا الصحافي السوري الذي لم يكن معروفاً سوى في الدائرة الضيقة بين زملائه الإعلاميين والناشطين. وبالتالي فإن اغتياله قتل سياسي ومعنوي، وحبس منفرد لمن يشبهه، على مبدأ الخوف من الحرب أسوأ من الحرب نفسها. وتبدو لي طفولية داعش وضيق وقتها في تنفيذ عمليات كهذه، وهنا لا استبعد “إمكانية” أن تكون داعش هي من نفذت، ولكن ليس باجتهاد الأداة التي لم ولن تكون يوماً لاعباً أساسياً.

في النهاية لن نرحم المعارضة السياسية من النقد، لأن شعبوية خطابها السياسي، تلك التي تراهق منذ خمسة أعوام، لم تؤد -إلا في حالات نادرة جداً- إلى الاتصال عضوياً مع العاملين الصامتين المؤثرين، ولك أن تتخيل أن العالم يعرف الثورة السورية ورموزها وإكسير حياتها أكثر منهم. ولو أن سياسيينا وصلوا رحم السياسة بمشيمة هؤلاء لفعلناها وأنجزنا مؤسسات بديلة وناجحة.

إن الردّ على هذه الاغتيالات -برأيي- لا يكون بالتصعيد الثوري، بل بإلغاء دوافع الاغتيالات بطرق دبلوماسية، وهذا أمر صعب، يحتاج عملاً ومتابعة لكل تحوّل ومفترق في الثورة السورية. علينا أن نحمي هؤلاء وهم أحياء قبل الترحم عليهم بعد اغتيالهم، بعدم إثارة الغبار والنار حولهم، وقذفهم بالتهم دون دلائل ملموسة، وربما الدواء الأساسي لهذه الهجمة العالمية المنظمة على أهداف ثورتنا يكون بتأصيل هذه الأهداف وعلى رأسها إسقاط النظام.

Exit mobile version