مجلة طلعنا عالحرية

المرأة في مؤسسات الثورة بين التمكين والتنميط

قال: لا زالت صورتها في عيني.. تقف في شارع القوتلي معترضة الباص المحشو بالمعتقلين.. صرخت بهم: “لا أتزحزح حتى ينزل كل الشباب”. ثم لم تتزحزح حتى كان لها ذلك.

لم تكن صفقة تبادل أسرى، ولا وجدت وساطات من منظمات ودول وكواكب أخرى.. كانت أم عماد وحدها تقف قبالة ضباط وشبيحة مسعورين، أنهوا لتوّهم قمع إحدى مظاهرات دوما المبكرة.. استخدموا كعادتهم الرصاص الحي وقنابل الغاز، وكانوا يهمّون بمغادرة المدينة، مع باص ملؤوه بمتظاهرين شباب هتفوا للحرية والكرامة.

أقسم أحد الحاضرين: “نفس المشهد صار بالميدان،عند جامع الدقّاق.. نفسه نفسه!”.

جميع من في السهرة اتفقوا أن الحادث تكرّر بالفعل أكثر من مرة؛ في دوما وفي غيرها، ومع أم عماد ومع غيرها. واتفقوا أيضاً بوصف الأخيرة: “لا تملّ، ولا تتعب”! لكن أحدهم عقّب: “بدك تفهم هالحكي اليوم لصبيان المكاتب الأمنية ليتركوها بحالها”!

     الكلام أدناه ليس في سياق دعوة (فمنست) تغريبية، لعلك موضوع تحرير المرأة وحقوق النساء في السياسة، أو لاستحضار معارك افتراضية عن تولي المرأة رئاسة الدولة (أي دولة؟) أو خطابة الجمعة في الحرم المكّي!.. وليس أيضاً للتغنّى بنون النسوة والتاء المربوطة، فيما لا تزال كل أبجديتنا مصادرة..

لا ننشد هنا شيئاً أبعد من الكفّ عن إقصاء النساء عن أماكن وجودهن الطبيعية. وخاصة في حال وجدن بالفعل. فلا تخلو مدينة أو قرية أو بلدة من “أم عماد” ومن نشاط نسوي مهما كان صغيراً أو كبيراً؛ منظماً أو فرادى ومثاني.

     في مؤسسات ما بعد الثورة، لا زالت معظم طروحات عمل المرأة تتلازم مع أفكار مثل الخياطة وشغل الصوف والكوافير.. ومؤخراً -وهذا ربما هو الأكثر إسهاماً في التنميط- (مكتب المرأة)! ويختلف تعريف مكاتب المرأة هذه ووظيفتها من مؤسسة إلى أخرى؛ لكن يمكن إجمالها بأنها تعمل بما تفترض أنه يخصّ المرأة، ولا تعمل بما تفترض أنه لا يخصّ المرأة؛ فالتربية واحتياجات الأطفال وزوجات الشهداء والمعتقلين والتوعية عن النظافة والغسيل وصحّة الأولاد والصحّة العامة في البيت، أمور تخص المرأة. المحاسبة وإدارة المشاريع والإعلام والتواصل والعلاقات العامة أمور تقتصر على مكاتب الرجال!

تداوم مؤسسات المناطق المحررة على الشكوى من هجرة الكفاءات، نحو السلاح أو خارج البلد، وقليلاً ما يطرح وجود نساء مؤهلات (أو ممكن تأهيلهنّ) لسدّ الحاجة. رغم أنه وبحسب إحصاء للبنك الدولي، فإن النسبة المئوية للإناث إلى الذكور في الالتحاق بالتعليم العالي في سوريا: في 2011 كانت 0.99 بينما في 2012 صارت 1.04، ولا تحديثات منشورة عندهم عن السنوات اللاحقة، لكن المتوقع أن ظروف البلد تؤدي لزيادة نسبة الإناث في التعليم العالي على حساب الذكور. والنسبتان أعلى من نظيرتيهما في دول متقدمة علمياً مثل ألمانيا وتركيا.

       مشاهدات ذات صلة، معظمها من الغوطة الشرقية:

في الغوطة الشرقية، لا يوجد تمثيل للمرأة في جميع المجالس المحلية، باستثناء المجلس المحلي لدوما؛ حيث وُجِد (مكتب المرأة) ضمن مكاتب المجلس. ولاحقاً أنشئ مكتب بنفس الاسم في مجلس محافظة ريف دمشق.

في انتخابات المجالس المحلية لا تشارك النساء لا في الترشّح ولا في الانتخاب (تمنع إن أرادت في بعض الحالات)، لكن لا بدّ هنا من تسجيل سابقة للمجلس المحلي في زملكا؛ حيث نظّمت انتخابات عامة بمشاركة جميع الراشدين من السكّان بمن فيهم النساء، ويذكر أيضاً أن النظام استهدف مركز الانتخاب الخاص بالنساء بالقصف.

بعض مشروعات تمكين المرأة انتهت بالمحاكم الشرعية أو غير الشرعية، أو بفضائح فساد وسوء أمانة وغيرها.. ناهيك عن خناقات نسوان مقيتة على طريقة كناين باب الحارة المقيت! وهذا بالمناسبة يحدث في مشروعات نسوية وغير نسوية، لكن لما يتعلّق الأمر بالمرأة، فمثل هذه البهدلة تهدي مستنقعاً من الماء العكر لصيادين ذكوريين: “هاد يلي بيشتغل مع النسوان.. قلنا مكانها البيت.. المرا بنص عقل.. إن كيدهنّ عظيم..”.

في مؤسسات فاعلة في الغوطة الشرقية، لا تشارك النساء في الانتخابات، (في حال وجدت نساء أو وجدت انتخابات أصلاً) يصحّ ذلك على كل من مديرية التربية ومديرية الصحّة، والمكتب الطبي الموحّد، ومكتب الخدمات الموحّد، والمكتب الإغاثي الموحّد، ورابطة إعلاميي الغوطة الشرقية..

الهيئة العامة في الغوطة الشرقية، وهي أكبر تجمع للمؤسسات المدنية، أيضاً لا يوجد في مجلسها التأسيسي وفي توسعتها ولا امرأة من أصل أكثر من 200 عضو. ولازالت تسعى من خلال مشروع “الترميم” لخلق “كوتا” للنساء.

أحد أهم المحاولات (الأكاديمية) للتعليم العالي البديل في الغوطة الشرقية لا تستهدف الإناث من الطلبة، ولا يوجد في كوادرها التدريسية والإدارية أي امرأة. ويعلّل القائمون عليها ذلك بأن “المشروع في بدايته ويعاني من نقص الكوادر التدريسية و-طبعاً- عجز في التمويل، وهناك خطة لتوسيع العمل ليضم قسماً للإناث”، لكن الأكاديمية بعد نجاح سنتها الدراسية الأولى، توسعت في السنة الثانية بإضافة أقسام أخرى أيضاً تقتصر على الذكور.

تتعرض بعض المؤسسات لمضايقات من (المكاتب الأمنية) في مناطقها لمجرد كون القائمات عليها نساء، أو أنها تنشط في مجالات تخصّ المرأة.

لا تزال ثقافتنا المحافظة ذريعة تجهيل وتمييز سلبي ضدّ المرأة، ونقول (ذريعة) لأن معظم حالات إقصاء المرأة وقهرها لا علاقة لها بالثقافة أو بالإسلام أو حتى بالتقاليد المحافظة. بل إن الثقافة المحافظة نفسها تقتضي تمكيناً ومزيداً من مشاركة المرأة الحقيقية في مختلف مجالات العمل. في مجزرة الكيماوي مثلاً، أدى عدم وجود مسعفات وكوادر نسائية ميدانية في الدفاع المدني وفي النقاط الطبية إلى زيادة في عدد الضحايا من النساء؛ فكل المسعفين من الشباب، وغارات الكيماوي كانت بعد منتصف الليل في عزّ الصيف والحرّ، فحال خجل المسعفين أو غيرة أهالي النساء المصابات أو حتى المصابات أنفسهن.. دون إسعافهن.

      ليست كل الأمثلة سلبية ومخيّبة؛ فهناك نشاط نسوي -أو تشارك فيه نساء بفاعلية- معتبر مثل تجربة مراكز النساء الآن، نساء الغوطة، مركز نور لكسر الحصار، مؤسسة يد واحدة، منظمة أسس، شبكة حرّاس.. ومؤسسات وتجارب فردية أخرى تشكّل قصص نجاح نسائي مهمة ومحترمة.

نتابع:

أحد المؤسسات المذكورة سبقت -زمنياً- كل المبادرات في منطقتها، فكانت أول مؤسسة عاملة في مدينتها، وكان السكان يراجعونها للسؤال عن أمور ليست من اختصاصها لمجرد أنها (الجهة) الوحيدة في المدينة.

توجد سيدتان في مجلس محافظة ريف دمشق تمثلان منطقتين فيه، وقد وصلت إحداهما للمكتب التنفيذي لمجلس المحافظة.

      يستمر طرح مشاركة المرأة في الحياة العامة والعمل المدني على أنه (إقحام) تكميلي، كإكسسوار، أو من أجل تقوية “البروفايل”، أو لأنه أفضل لاستقبال التمويل.. لتبدأ أكثر المشروعات بالرجال ثم يمكن أن تتوسّع لتضمّ بعض النساء ضمن هوامش أو زوايا محدودة ومقيدة تسمّى بمسميات مختلفة منها (مكتب المرأة) أو لجنة المرأة أو مكتب الأسرة أو التوسعة أو حتى (السدّة).

Exit mobile version