مع مضي الثورة السورية في عامها السادس، نستطيع الاعتراف أنّ الثورة على النظام السياسي شيء، والثورة على النظام الإجتماعي بما يشكله من أيديولوجيا وأنماط سلوك وعادات ومفاهيم شيء مختلف. بل يمكن القول إن إسقاط النظام السياسي لا يعني بالضرورة إسقاط النظام الاجتماعي أو تفكيكه، خاصة وأن أنظمة الفساد والديكتاتورية التي تقوم الثورة في مواجهتها كانت معنية، خلال عقود من سيطرتها البائسة على المجتمع ومجمل الحياة المدنية والسياسية فيه، بتكريس كل ما هو متخلّف ومشوّه في الفكر والثقافة والعادات والتقاليد والمفاهيم، حتى وهي تدّعي العلمانية والحداثة.
ونحن إذ نتحدث عن الثورة فإنّنا نقصد هذا المصطلح في مواجهة الانقلابات العسكرية والسياسية التي كانت تكتفي بتغيير “الطربوش”، كما عبّر محمد الماغوط في مسرحية “ضيعة تشرين” التي قدمها على المسرح عام 1974 بُعيد انقلاب حافظ أسد. فالثورة لا تعني تغيير “الطربوش” فقط، بل هي تغيير يشمل كل البنى الفكرية والثقافية في الحياة، بما فيها اللغة والخطاب والأعراف وأنماط السلوك وصولاً إلى منظومة القيم والأخلاق.
وإن كانت الثورة السورية لم تبلغ غايتها بعد في إسقاط النظام وتغييّر بنى الفساد والديكتاتورية التي أسسها ورعاها خلال عقود خمسة، إلا أنّ هذا المستوى المتقدم من الثورة الذي أشرنا إليه تراجع كثيراً مع تقدّم مستويات العسكرة، وتداخل القوى الإقليميّة والدوليّة التي جهدت لتحويل الثورة باتجاهات الحرب الأهلية، ولإعطائها طابعاً طائفياً لم يكن في وارد من اندفع إلى التظاهرات الأولى للثورة السورية.
والأكيد أيضاً أنّ هذا التراجع انعكس وما زال على دور المرأة في الثورة، وعلى طموحاتها باتجاه التغيير والحرية، حتى بات مصير المرأة السورية أكثر مأساوية باعتبارها جزءاً من الهامش في منظومتنا القيمية التي تُكرس تخلفها، وتُصرّ على اعتبارها “عورة”. دون أن ننتشي بما يكتب عن مشاركة المرأة السورية في الثورة، والإشادة بنضالاتها المتعددة، ودون أن ننتشي أيضا بماً نالته بعض الأسماء من الجوائز والتكريم، لأنّ البنية القيمية أو المعيارية الحاكمة لوضع المرأة ما زالت دون تغيير.
أذكر في هذا الصدد تساؤلاً مبكراً طرحته الدكتورة شهلا العجيلي، حول المساحة التي يشكلها النضال النسوي من جملة النضالات التي تشارك فيها النساء المنخرطات في سياق ماعُرفَ بالربيع العربي، لتثير فينا الشكوك حول توظيف نضالات المرأة في سياقات عامة ما تزال تخضع لسيطرة ذكورية، تسحق الفرد وكل الهوامش لصالح أنساق عليا سياسية وأيديولوجية. ويمكن لنا حالياً أن نتابع نحن السؤال عن حال المرأة الليبية مثلاً، أو سواها من بلدان الربيع العربي، مع أمل ضئيل بأن تنجح المرأة السورية بكسر هذا الإيقاع أو النسق.
فواقع المرأة العربية بعد الربيع العربي “لم يتغير كثيراً رغم وقوفها بالصفوف الأمامية في الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بطغاة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، كما قالت “ويدني براون” من منظمة العفو الدولية “أمنستي”، والتي أضافت: “إننا نشهد سيطرة حكومات جديدة في بعض دول الربيع العربي، غير أنّ المرأة فيها لا تزال مواطناً من الدرجة الثانية”.
وهذا يؤكد أنّ قضية المرأة في مجتمعاتنا كانت ولا تزال تنتمي إلى نسق الهامش والتفاصيل الصغيرة التي تسحق دائماً تحت وطأة القضايا أو الأنساق الكبرى السياسية والأيديولوجية بكل تبايناتها الدينية أو القومية أو الطبقية، والتي يجري تسخيفها وإرجاعها دوماً إلى توصيفها الجنسي في إطار المحرمات الثلاث، الجنس والدين والسياسة، التي لم يكن يُسمح التداول فيها أو نقاشها.
وإن كانت ثورات الربيع العربي قد فتحت بالضرورة إطار النقاش في حقل السياسة، فإنها ما زالت تتلكأ فيما يخص حقلي الدين والجنس، اللذين تتضافر منظومتيهما للتعمية على قضية المرأة وتحرّرها بشكل عام. ويبقى مطلوباً من المرأة أن تكون مع الثورة، لكنّ أغلب الثوّار لايفكرون بضرورة أن تكون الثورة مع المرأة، وأي ثائر لايُسأل عن حياته الشخصية، لكنّ المرأة مطلوب منها باستمرار أن تقدم شهادات حسن السلوك وطاعة لأولي الأمر.
المشكلة أنّ بُنى المجتمع المتخلفة التي حماها النظام بقوّة، كرّست نفسها حتى في أطر النخب السياسية والثقافية للمعارضة السورية، التي سعت للّحاق بعربة الثورة ولم تنجح في قيادتها ودفعها للأمام، بقدر ما شكلت عائقاً حقيقياً أمامها. كما تابعت كل التعبيرات السياسية التي ظهرت باسم الثورة لاحقاً، باستثناء التنسيقيات وبعض أطر العمل المدني، نهج قوى المعارضة وفشلها في قيادة التغيير الحقيقي في المجتمع، كونها نخب تتكئ على كل الأعراف الاجتماعية والثقافية التي تحدّ من قدرتها على الفعل والتغيير. وأعتقد أنّ من يفتقد الحرية بداخله لن يكون قادراً على تحرير مجتمعه.
هذا التغيير وتلك الحرية المنشودة لن تحصل دون مشاركة المرأة في الحياة السياسية والعامة لمجتمعاتنا. ودون تكافؤ حقيقي بالفرص، ودون التقيد الكامل باتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، التي صدّقت عليها كل دول المنطقة منذ أمد بعيد، لكنها عطلتها بالتحفظات حيناً وبالتجاهل وعدم تطبيقها حيناً آخر. وهذا يشكل التحدي الأكبر أمام النخب الثقافية والسياسية لتطور من أدائها ومن وعي كوادرها، بل ومن الذهنية العامة تجاه دور المرأة في الحياة، والمجتمع، ونشر ثقافة المساواة.
في استطلاع لوكالة “رويترز” أواخر عام 2013 جاءت سوريا في المرتبة الرابعة كأسوأ دولة عربية فيما يتعلق بحقوق المرأة، لكننا نستطيع القول الآن وبثقة كبيرة، إنّ سوريا هي الأسوأ، فهل تستطيع الثورة أن تنتصر للمرأة أخيراً، وتغير ثقافتنا وخطابنا الذي يكبل المرأة ويشل المجتمع ويَئِدُ أحلام التغيير؟