مجلة طلعنا عالحرية

المرأة.. أدوار جديدة ورهان غامض

إباء منذر

لن يعود شيء كما كان قبل خمس سنوات، هي واحدة من المُسلمّات التي فرضتها الحرب بعد أن غيرت سوريا بكل مكوناتها وتفاصليها، بما في ذلك وضعية ودور المرأة.

“انتظرتهم ليصبحوا رجالاً ويعيلوني في كبري لكنهم ذهبوا من غير وداع” هذا ما قالته لي “أم أحمد” السيدة الخمسينية بصوتها المنهك من إعالة أحفادها وابنتيها في بلاد النزوح.

“منذ عامين خرج أولادي الثلاثة ولم يعودوا ولا أعرف عنهم أي شيء” تضيف “أم أحمد” القاطنة في لبنان بعد أن استأجرت غرفة متواضعة يعيش فيها ثمانية أفراد بينهم ثلاثة أطفال. عائلة أم أحمد هي واحدة من أصل 144 ألف عائلة سورية فقدت معيلها خلال الخمس سنوات الفائتة، وفقاً لإحصائيات الثورة السورية.

أرقام ودلالات

وتبعاً للغة الأرقام وحسب مصدر الإحصاء ذاته، فإنّ عدد الشهداء من الذكور بلغ 151685 شهيداً موثقاً بالاسم، أضف إلى ذلك 114960 معتقلاً و109535 مفقوداً. وبينما تدور رحى الحرب تتضاعف أرقام النزوح خارجياً، وبالاستناد إلى أرقام “الشبكة السورية لحقوق الانسان” فقد بلغ عدد اللاجئين السوريين في الخارج خمسة ملايين و835 ألف، أكثر من 50 % منهم أطفال و35 % من النساء و15 % هم من الرجال.

هناك إذاً ما يزيد عن مليوني امرأة -35% من إجمالي اللاجئين- خرجن من سوريا بحثاً عن حياةٍ جديدة، ومنهن من تنتمينّ إلى بيئاتٍ محافظة. وبقراءة الأرقام فإنّ تأمين مصدر دخل لعدد كبير من الأسر السورية بات يقع على كاهل المرأة بعد أن كانت نسبة مشاركتها في قوة العمل المُسجّلة لا تتجاوز 12.9 في المئة قبل سنوات الثورة وفق أرقام المكتب المركزي للإحصاء لعام 2010، مع الإشارة إلى أنّ هذه النسبة لا تشمل العاملات في اقتصاد الظل (غير المنظم)، والعاملات في الزراعة ضمن الأرياف.

هو إذاً اختبار قدرة وتحمل أُجبرت المرأة على دخوله، وفي بعض الأحيان نجحت في ذلك؛ ففي قراءةٍ متأنية لمئات القصص السورية هناك العديد من النساء اللواتي خرجّن من سوريا وحدهن وتحملن مسؤولية أطفالهن للوصول إلى بلادٍ أكثر أمناً رغم خروجهن من بيئات محافظة، وهذا ما كان صعباً على المرأة ممارسته قبل خمس سنوات.

تبادل الأدوار

“سلمى” هي واحدة من السيدات الواصلات إلى فرنسا برفقة طفليها عن طريق التهريب، تحملت مسؤولية ومخاطر الطريق بالنيابة عن زوجها الذي ينتظر قرار لم الشمل بعد حصولها على الإقامة.

أما “رهف” (تحمل إجازة جامعية) الوحيدة على ثلاثة شبانٍ لم تكن تجرؤ على الخروج وحيدةً من منزلها خضوعاً لرغبة إخوتها، ولكن بعد رحلة عذابات داخل سوريا اضطرت الأسرة خلالها للنزوح ثلاث مرات، وتدهورت أحوالها المادية. تجرأت الفتاة على النزوح وحيدة إلى لبنان ومن ثم إلى تركيا لتعمل هناك وتعيش وحدها، وترسل لأسرتها بعض المال، وهي تستعد اليوم للزواج من شاب سوري التقته في المهجر، وتقبلت الأسرة بشكلٍ أو آخر وضع رهف الجديد، وأصبح ما كان مستحيلاً في الأحوال العادية، أمراً مسلماً به، لا بل وممتدحاً من قبل الأبوين وأحد الأشقاء الثلاثة.

وما زالت ضحكة السيدة التي طلّقت زوجها في أوروبا عالقةً في ذهني معللةً أنها لا تحبه وتركته فور وصولها إلى بلادٍ تحترم حقوق المرأة!

ورغم ما تتعرض له المرأة في مواقع كثيرة من انتهاكاتٍ صارخة لحقوقها عمقتها الحرب، لكن فور تحرّرها من القيد الاجتماعي ستكون سيدة نفسها وتمتلك قرارها الحر أكثر من أي وقتٍ مضى.

نماذج متعاكسة

لم يعد بالإمكان قراءة واقع المرأة داخل سوريا، بصفة عامة، بسبب ازدياد الشروخات الاجتماعية والسياسية، ففي بعض البيئات داخل سوريا دفعت المرأة بالقوة إلى المزيد من التقوقع والانغلاق وتحجيم دورها ومكانتها، بالمقابل في بيئاتٍ أخرى ألقت بها الظروف في معترك الحياة، ووجدت نفسها وحيدة تصارع من أجل قوتها وقوت أطفالها، ممّا عزز ثقتها بنفسها، وأكسبها مهارات وخبرات جديدة، من الصعب إعادتها إلى الخلف.

أما خارج سوريا فمقابل النماذج التي يمكن وصفها بالإيجابية لجهة استقلالية المرأة وتعزيز دورها وحقوقها، ظلّ الأمر في كثير من الحالات رهناً لاستجابتها أولاً ولاستجابة الرجل ثانياً، فإنّ المتغير الوحيد الذي طرأ على حياة العديد من العائلات السورية القادمة إلى أوروبا هو المكان، بسبب تمسك الرجل والمرأة أكثر فأكثر بأفكارٍ يعتقدان أنها حصانتهما في مجتمعٍ “غريب” ينظران إليه على أنه متفكك أخلاقياً.

“صفاء” أتت مع زوجها وأولادها إلى فرنسا تقول: “زوجي كان أكثر مرونةً في سوريا سواء من ناحية اللباس أو حركتي خارج المنزل وأيضاً تربية الأطفال، لكنه منذ وصولنا ازداد تشدداً خوفاً من اعتناقنا لأفكار المجتمع الجديد”. ولا تخفي صفاء انزعاجها من ذلك وعدم قناعتها بهذا التشدد غير المبرر، إلا أنها في ذات الوقت متصالحة مع ذاتها، فهي تنظر إلى نفسها على أنها عاجزة أمام إحداث أي تغيير في تعاطي زوجها مع حياتهم في المجتمع الجديد.

رهان مستقبل غامض

ستواجه المرأة امتحاناً لم تعهده من قبل، حيث ستعاني طويلاً من العيش بين متناقضين أحدهما جاءت به رواسب اجتماعية عمرها مئات السنين، وواقع موضوعي فرضته ظرف الثورة واللجوء. ومن البديهي أن لا نقرأ نتائج ذلك على المدى القصير، كما من الصعب تحديد مدى قدرة المرأة على مواءمة الظروف وتطويعها، لإحداث تغيير عميق والخروج من الشرنقة.

مهمة جديدة وقعت على عاتق المرأة (في الداخل والخارج) أضيفت إلى جملة المهام التي تقوم بها في مجتمعٍ تعمّق فيه الفصل بين ما للنساء وما للرجال من أعمال، وتوزيع مختلف للأدوار، تراجع في كثير من الحالات دور الرجل تدريجياً بسبب الظرف الموضوعي الذي فرضته الحرب لصالح مساحةٍ أكبر ستملأها المرأة.

ربما سيكون ذلك عبئاً ثقيلاً على المرأة، لكن إذا كان من المؤكد أنه سيذهب بها إلى تحقيق المزيد من الاستقلالية الاقتصادية، يبقى السؤال مفتوحاً، هل سيؤدي هذا من حيث المحصلة إلى كسر القيود الاجتماعية المتراكمة منذ عهود طويلة، وإحداث تغيير عميق في وضعية المرأة السورية داخل المجتمع؟.

Exit mobile version