Site icon مجلة طلعنا عالحرية

المحاكمات العادلة في التشريع السوري

المحامي ميشال شماس

مع تطور الفكر الإنساني، تطورت فكرة العدالة واتسع نطاقها، ولاسيما بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الانسان، والعهد الدولي في الحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية مناهضة التعذيب، والتي أرست مجموعة من القواعد والمبادئ التي من شأنها تعزيز حماية حقوق الإنسان. ومن بين تلك الحقوق الحق في المحاكمة العادلة. وهو حق من حقوق الإنسان، ولا يخصّ القضاء الجنائي وحده بل يشمل القضاء بكل فروعه المدنية والجزائية، وهو لا يقتصر فقط على مرحلة المحاكمة، بل يشمل كذلك مرحلة ما قبل المحاكمة وما بعدها.

ومازال الالتزام بالمعايير الدولية للمحاكمات العادلة التي نصّت عليها اللوائح والاتفاقيات والمواثيق الدولية يشكل هاجساً ومطلباً لجميع المؤمنين بحماية حقوق الإنسان، وفي طليعتها المنظمات الدولية والوطنية، التي ترى أن الالتزام بمعايير المحاكمة العادلة شرط من شروط تأسيس دولة القانون اعتماداً على المساواة بين أفراد المجتمع، وحق من الحقوق الأساسية التي يجب، تضمنها الدساتير والتشريعات الوطنية، وتحميها لتأمين تحقيق العدالة عبر كافة مراحل وإجراءات التحقيق والمحاكمة ومكان تنفيذ العقوبة.

وعلى هذا أكدت المادة 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: “لكل إنسان على قدم المساواة التامة مع الآخرين الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة نظراً منصفاً وعلنياً، للفصل في حقوقه والتزاماته وفي أي تهمة جزائية توجّه إليه”. كما أكدت عليها المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: “من حق كل فرد أن تكون قضيته محلّ نظر منصف وعلني من قِبَل محكمة مختصة مستقلة حيادية منشأة بحكم القانون”. كما تضمن العهد الدولي المذكور على الكثير من الحقوق التي تكفل إجراء المحاكمة العادلة. يضاف إليها مجموعة أخرى من المواثيق واللوائح الهامة التي صدرت عن الأمم المتحدة، فيما يتعلق بمنع التعذيب واستقلال السلطة القضائية والمحامين ومعاملة السجناء وغيرها من الصكوك والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها جميع الدول ومن ضمنها سورية، باعتبارها نصوصاً دولية متفقاً عليها، هدفها الأول حماية حقوق الأشخاص منذ لحظة القبض عليهم، وأثناء احتجازهم قبل تقديمهم إلى المحاكمة، وعند محاكمتهم، وحتى آخر مراحل الاستئناف والنقض.

ويمثل انتهاك هذه المعايير مبعث قلق كبير للناشطين والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان في شتى أنحاء العالم؛ لكون تلك الانتهاكات تشكل خطراً على حقوق الإنسان في حد ذاتها؛ ولأنها تساهم في وقوع شتى ضروب الانتهاكات الأخرى لحقوق الإنسان، بما في ذلك الزَّجّ بالأفراد في السجون، لأسباب تُدْرجهم في عداد سجناء الرأي والتعذيب، واستخدام العقوبات القانونية التي ترقى إلى حد التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة.

وعلى الرغم من أن السلطات السورية قد أقرت في دساتيرها المتعاقبة على احترام حرية الإنسان، ومنع التعذيب ونصت في قوانينها على المحاكمة العادلة، وأن لا جريمة بدون نص، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته واعتبار حق التقاضي والدفاع مصون، الإ أن كل ذلك بقي حبراً على ورق. فمن يطلع على الدستور السوري الصادر عام 2012 ودستور عام 1973 والتشريعات السورية، سيلحظ أنها اشتملت على الحق ونقيضه؛ فمثلاً اعتبرت التعذيب في دستور 2012 جريمة، لكن على أرض الواقع يجري التعذيب على نطاق واسع وممنهج في كافة السجون والمعتقلات الأمنية. وكفل الدستور حق التقاضي، ومنعته السلطة بنصّ قانون آخر، كما في حالة إنشاء المحكمة الميدانية التي تمنع المحامين من مراجعتها أو الترافع أمامها، ويمنع الطعن في قراراتها التي تصدر مبرمة. وكذلك الوضع في محكمة الإرهاب لايختلف كثيراً، حيث يجري استجواب المتهمين أمامها في ظروف بالغة السوء من قبل قضاة فاقدي الاستقلالية، ولا يسمح للمتهم بالحديث مع محاميه، ويتم استجوابه في كثير من الأحيان بدون محام، كما لا يسمح للمحامي بتصوير ملف القضية، يضاف إليها السطوة الكبيرة لعناصر الأمن والشرطة وتدخلهم في عمل المحكمة، وباختصار شديد فإن السلطات تسحب ما تعطيه من حقوق في بعض نصوص القوانين، من خلال انتهاكها ومصادرتها في بعض نصوص قانونية أخرى.

فلا يكفي النص في الدستور والقوانين على تلك المعايير على أهميته ما لم يترافق ذلك كلّه بمؤيدات جزائية تردع المخالفين لها من الحكام أو المحكومين على السواء، وما لم يترافق أيضاً مع نشر روح الحرية واحترام القانون لدى الناس أجمعين، وجعل تلك الروح حيّة على الدوام في قلوب الناس، فما قيمة النصوص والقوانين إذا خمدت روح الحرية واحترام القانون وحقوق الإنسان في قلوب الناس؟ هذه الحرية التي تعلو بالإنسان، ولا تحط من قيمته بالترهيب والتخويف.

باختصار، لا يمكن وصف محاكمة بالعادلة، إلا إذا التزمت المحاكمة كلّها، من بدايتها إلى نهايتها، بالمعايير الدولية للمحاكمات العادلة، مع توفر سلطة قضائية مستقلة ومحايدة، وعلى وجه الخصوص: منع التدخل الأمني في عمل القضاة والمحاكم.

Exit mobile version