تأسس المجلس المحلي في داريا في آخر سنة 2012. وخيّمت على أجواء التأسيس ثلاث سحب:
- مجزرة داريا الكبرى في آب 2012، والتي كانت الأسوأ من حيث عدد الضحايا وكمية الإجرام الحاصل بل وحتى نوعيته، حتى حصول مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية في السنة التالية.
- وضع الجيش الحر في المدينة في أسوأ حالاته؛ سواءً من حيث الإنهاك، بعد محاولة التصدّي لقوات النظام الطاحنة التي نفذت الاقتحام والمجازر المرافقة له. أو من حيث الرضى الشعبي عن المقاتلين في المدينة؛ فهناك من حمّل مقاتلي الجيش الحر ذنب تفاقم ضحايا المجزرة بسبب أخطاء اقترفوها. نقول (ذنب تفاقم الضحايا) وليس ذنب مجمل المجزرة بالطبع، فلا يصحّ -أولاً وأخيراً- نسب الجريمة لغير مرتكبها المباشر: قوات النظام المجرم.
- السحابة الثالثة هي تململ عام من ناشطي المدينة ومَن حولهم بسبب فشل (آخر) لمحاولة دمج تنسيقيتي داريا بمجموعة موحَّدة (بفتح الحاء) ويُرجى لها أن تكون موحِّدة (بكسر الحاء). فقد وُجدت في المدينة تنسيقيتان منذ بداية الثورة، حصلت مبادرات لدمجهما في جسم واحد يحمل اسم “تنسيقية داريا” (دون إضافات تمييزية كما كانت الحال وقتها) أو على الأقل للتعاون والتنسيق بينهما بدل التناحر وادعاء كل طرف أنه الأصلح للعمل. لم تكلّل المحاولات السابقة بالنجاح، وكانت آخرها في الأسابيع التي سبقت المجزرة مباشرة.
هذا بالإضافة إلى طقس عام في البلد حوى موجة تشكيل المجالس المحلية الثورية في المدن والبلدات كأحد صيرورات الحراك الشعبي في سوريا.
في الاجتماع التأسيسي للمجلس المحلي (الاجتماع تحت السحاب كما ذكرنا): خطب بالموجودين أحد أعضاء “لجنة الحكماء” التي قامت بالمبادرة المشكورة لجمع النشطاء على طاولة واحدة، وافتتح كلامه بمثال من السيرة النبوية: (السيدة عائشة تسأل النبي عليه السلام بعد أن علمت منه أن الناس يحشرون يوم القيامة حفاةً عراة: (الرجال والنساء جميعاً؟ ينظر بعضهم إلى بعض؟!)، قال “يا عائشة الأمر أشدّ من أن يهمّهم ذلك”.
فالوضع خطير وحرج.. و”القيامة قايمة”.. لذا فإنه حتم على الجميع أن يتجاوزوا أنفسهم وآراءهم وأن يلينوا ولا يفاتشوا في التفاصيل. من أجل أن نصل إلى اتفاق يرضي الله تعالى ويخفف من معاناة أهالينا ويساهم في خلاص بلدنا الحبيب.
أقسم الحاضرون بعد ذلك قسماً مغلّظاًً فحواه دعم هذا المشروع واعتبار العمل خارجه (العمل العسكري خاصّة) انقلاباً تنبغي مكافحته، وأن يكون اختيار المسؤولين بالتصويت لصالح الأكفأ والأنسب وليس بناءاً على الولاءات، بالإضافة إلى التزام السرية في كل ما يخصّ المشروع والعاملين فيه. وبالمناسبة، لم تعد هناك الآن أسرار نفشيها في هذا النص.
وهكذا، تمّ تشكيل المجلس ومكاتبه، ثم الإعلان عنها. وقد حوى التشكيل التأسيسي تسعة مكاتب هي المكاتب الخدمية والمدنية المعتادة بالإضافة إلى (المكتب العاشر) وهو المكتب العسكري. اعترض البعض وقتها بأنه ينبغي الحفاظ على فصل العمل العسكري عن العمل المدني. لكن الغالبية وافقت على وجوب احتواء العسكر ضمن الجسم المدني الجامع الذي سيكون مثل حكومة للمدينة وفيها (وزارة دفاع) تأخذ أوامرها من (الحكومة) التي يمثلها المكتب التنفيذي للمجلس المحلي، وكذلك تحصل على تمويلها من مالية المجلس المركزية، وذلك لضمان تبعية العسكر للمدنيين المنتخَبين.
جرى هذا في ضوء موضوعة تقول إن عليك لتكون مؤثراً في العسكريين أن تشاركهم خنادق القتال أو أن تدفع رواتبهم وثمن ذخائرهم، وفي ظلّ ثقيل لأكثر من 600 شهيد ارتقوا قبل أيام من الاجتماعات التي طرحت المبادرة.
لم يكد المجلس يبدأ بترتيب أوراقه ومكاتبه، حتى عاود النظام اقتحام المدينة، وفُرضت المعركة على المجلس، مع أوزارها المرافقة واللاحقة.
وهكذا استمرّ القصف على داريا حتى ساعة “الباصات الخضر” المعروفة في آخر صيف 2016. بما صبغ قصة حياة مجلس داريا بالعواصف والرعود وقحط الحصار، بالإضافة لزوابع محليّة الصنع أتعبت المجلس وأعضاءه ربما أكثر من قصف البراميل وأحرقت أعصابهم كما كان نابالم الأسد والروس يحرق بيوتهم. كانت فيها ومضات البرق من كدّ العاملين في المؤسسة ودأبهم لاجتراح ما بدا أنه معجزات، نجحوا في بعضها، واحتسبوا أجراً واحداً باجتهاداتهم في البعض الآخر.
في شتاء 2016، وإذ يكتب مجلس داريا حلقته الأخيرة بإعلان حلّه من مهجره في إدلب، يبقى على العاملين في الشأن السوري العام أن يستخلصوا العبر من التجربة الغنية. لا يكفي التمجيد والإطراء، كما لا ينفع التقريع والجلد. بل تجب دراسة النجاحات وسبل تعزيزها واستنساخها، وتمحيص المثالب وضمان عدم تكرارها أو اجترارها.. قبل “قيام القيامة”.. فعلاً!
ناشط وصحافي، رئيس تحرير مجلة طلعنا عالحرية، ومدير مكتبها في دوما / الغوطة الشرقية سابقاً، إجازة في الآداب من جامعة دمشق قسم اللغة الإنكليزية، مدير مكتب الحراك السلمي السوري في ريف دمشق.