ليس التطرف الديني بظاهرة تقتصر على الإسلام السني وحسب، لكن السياسة ودهاليزها جعلت من التطرف السني شبحاً يثير خوف العالم، ويضع المسلمين السنة جميعاً في دائرة الضوء والخطر أحياناً، وضحية لردود أفعال أفرادٍ ودولٍ ومجتمعاتٍ لا تميز بين المسلم العادي والمسلم المتطرف.
تتشعب أسباب التطرف الديني ويشكل الغلو واحداً منها دون شكّ، لكن جذوره تكمن في غياب العدالة الاجتماعية، وتفاعلات المصالح الاقتصادية والعوامل الأمنية والاعتبارات السياسة داخل المجتمعات وعلى الصعيد الدولي.
ما برح الغرب المسيحي والشرق المسلم يخوضان صراع قيمٍ ومصالح منذ بدء الحروب الصليبية وقبل ذلك حين وصل المسلمون إلى الأندلس، مروراً بالاستعمار الأوربي بشكليه القديم والحديث، والعهد العثماني الذي شكل تهديداً مباشراً لأوربا المسيحية قبل ذلك. لكن هذا الصراع أخذ شكلاً مختلفاً في العقود القليلة الماضية، وأصبح الغرب يستخدم مصطلحات الإرهاب والتطرف الديني لفرض مصالحه، وبسط يده على بقاعٍ ذات مغزى استراتيجي بسبب غناها بالنفط أو لموقعها الجغرافي الحسّاس، وعمل على توظيف المنظومة الدولية لخدمة أغراضه تلك.
لا تمتلك الدول المسلمة مقومات الوقوف في وجه هذا المدّ، لكن واجبها كمجتمعات منفردة وكجتمع مسلم واحد أن تعيد النظر فيما تستطيع تقديمه للحدّ من الانحدار الغربي نحو تجريمها مجتمعة بتهم الإرهاب والتطرف الديني، حيث أنها -دون شكّ- المتضرر الأول من هذا التطرف الذي تعتنقه نسبٌ صغيرةٌ من أفرادها.
تغضّ الأنطمة الاستبدادية الطرف عن مثل هذا التطرف، وتستغلّه أحياناً لضرب مصالح دول أخرى، أو بسط مصالحها الخاصة، وهذا يعني أن التطرف لن يكفّ عن الانتشار مادامت شعوب المسلمين تعيش تحت وطأة الاستبداد، وما دامت النخب الدينية مرتبطة بهذه الأنظمة.
لكن هذا لا يعني أن على الشعوب المسلمة ألا تبادر إلى معالجة مشكلة التطرف تلك، ومحاربتها فكرياً من خلال العودة والتركيز على الاعتدال وعلى البعد التسامحي للدين، وعلى ما ينطوي عليه من تشجيع للعيش المشترك وإفساح المجال لحرية الاعتقاد دون الإكراه، وتقبل الآخر.
لا شكّ أن على العالم أن يساهم بشكل جاد في حلّ المشاكل التي تقود إلى التطرف وهي سياسيةٌ واجتماعيةٌ واقتصاديةٌ بالدرجة الأولى، لكن على المسلمين أن يظهروا أيضاً أنهم جادون في طمأنة العالم بأنهم على قدر المسؤولية وأنهم شركاء جادون في التصدي لهذه المشكلة.
وعلى الرغم من أن المجتمع المدني يتصف بأنه منفصلٌ عن الأديان عموماً، إلا أن الأمر ليس كذلك في واقع الحال. فالمجتمع المدني في الدول الغربية مثلاً يتغلغل في المؤسسات الدينية على نحو واسع، وتتقاطع معه تلك المؤسسات بشكل ملحوظ. وعليه فمن الممكن القول بأن المجتمع المدني في المجتمعات المسلمة، رغم تسليمنا بأنه لا يتمتع بالحرية والفضاء اللازم للعمل، يمكن أن يقوم بدور كبير وفعّال في توجيه الناس نحو الاعتدال الديني، والانخراط في العمل باتجاه تحقيق مصالحة فكرية وقيمية بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى.
ينطبق الأمر أكثر ما ينطبق على الجاليات المسلمة التي تقيم في الدول الغربية، وهذا لا يعني أنها لا تنشط في هذا الاتجاه، لكن عملها، حسب ما نرى، لازال متواضعاً، ويحتاج إلى صياغة رؤية واضحة ينطلق منها لتحقيق غايته في بناء تلك الجسور.
يمكن هنا القول بأن على المجتمع المدني “المسلم” أن ينهض بنفسه للعمل باتجاه محاربة التطرف، لأن المسملين هم أكثر الفئات تضرراً منه. ولأنه، وفي غياب الحكومات المسلمة القادرة على هذا العمل وغياب النخب الدينية الفعالة، يبقى هو الخيار الوحيد لدينا، وهو ليس بالخيار السيء، لأن العمل المدني والأهلي يمكن له أن يحقّق ما تعجر عنه السياسة. والتجارب تثبت ذلك.
الأمر نفسه ينطبق على المجتمعات المسلمة الشيعية أيضاً، ويرتب عليها أن تتصدى للفكر المتطرف داخلها، وتعمل على بناء الجسور بينها وبين نظيراتها على الضفة الأخرى بعيداً عن رجال الدين، وقريباً جداً من الإنسان العادي المستنير.