يدلُّ التفاوض عبر التاريخ على انعدام إمكانية الحسم والنصر العسكري لأي من الأطراف المتنازعة، فلم يسبق أن تفاوض منتصر مع مهزوم. المنتصر يفرض شروطه ولا يفاوض عليها. هذا هو درس التاريخ.
يحاول النظام منذ خمس سنوات الانتصار على الشعب الثائر ضده في سوريا، ولم يترك وسيلة قذرة أو سلاحاً فتّاكاً إلا واستخدمه ضد السوريين، وبالرغم من ذلك فقد آل للسقوط أكثر من مرة منذ 2012، لكنه كان يجد دائماً نظاماً دولياً قوياً يدعمه ويحميه من الانهيار. وهو لم يبخل في المقابل برد الجميل، إن كان ببيع الأرض والعرض لإيران عام 2012، أو بالتخلي عن السلاح الاستراتيجي لأمريكا ومن خلفها اسرائيل عام 2013، أو بالتوقيع على صك الاحتلال العسكري الروسي عام 2015.
يدلُّ التفاوض الحاصل في جنيف3 على مسألة في غاية الأهمية، وهي أن انعدام الحسم بين الأطراف المتنازعة لم يبق خاصاً بسوريا، بل انتقل إلى واقعة دولية وإقليمية محكومة بانعدام القطبية، ولذلك تبدو المفاوضات حاجة دولية أكثر من كونها سورية، ويبدو التفاوض دولياً وإقليمياً أكثر من كونه سوريا، وذلك مع الأخذ بعين الاعتبار، أنه من دون الأطراف السورية لن تمشي أي عملية تفاوضية، ولن تأخذ أي من الأطراف الدولية الداخلة في التفاوض، وفي صلب النزاع، أي صفة شرعية تبحث عنها بقوة تحت سقف الأمم المتحدة.
هذا الوضع التفاوضي في ظلّ اللاقطبية الحاصلة، يعد ورقة هامة جداً بيد المعارضة (والمقصود هيئة التفاوض دون غيرها) إن عرفت كيف تلعب سياسة بين الوحوش المُتدخِّلة والمديرة للمفاوضات والمحتاجة لها في الوقت ذاته. فما يريده الروس، أصبح واضحاً وضوح الشمس (يتطابق مع ما يريده النظام على المدى القريب وربما المتوسط، وإن اختلف عنه في المدى البعيد) وهو ضمُّ حركة أحرار الشام وجيش الإسلام إلى “داعش” وجبهة النصرة، وإجمال المعارضة المسلحة في معظمها تحت بند الإرهاب، بالإضافة إلى ضم البقية الباقية لصالح الحرب الدولية ضد “الإرهاب” بشراكة النظام في دمشق، ثم ما يتبع ذلك من تشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة الأسد مع تنازلات طفيفة هنا وهناك.
الأمريكان أيضاً يريدون ما يسعى إليه الروس، ولكن مع حسابات إقليمية مختلفة، تعطي أهمية لا يمكن تجاوزها لتركيا ودول الخليج والأردن، والعالم العربي و”السنَّة” بوجه عام. ولذلك فإن الضغط الأمريكي على المعارضة هدفه كسب الشرعية منها، وتوقيعها وإشراكها في الحرب الروسية الأمريكية ضد “الإرهاب” بعد تشّميله كل المعارضة الإسلامية المسلحة، وذلك دون أن تجد دولاً مثل تركيا والسعودية مكاناً للاعتراض على ما وقَّع عليه أصحاب الحق والأرض الأساسيين، أي المعارضة الممثلة بهيئة التفاوض.
ومن هنا فإن إصرار المعارضة على هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات كاملة، ومنع ادراج المعارضة الإسلامية بسلّة الإرهاب مهم جداً، وذلك من أجل إحراج الحلفاء قبل الأعداء، حيث إنه لا مشكلة في العمق عند دول مثل الأردن أو السعودية أو تركيا في إعادة تأهيل النظام على الطريقة الأمريكية الروسية، إن وافقت المعارضة وقبلت بالفتات المرمي لها في جنيف3، وهو ما وافقت عليه منذ زمن طويل “معارضات” بلا كرامة من أمثال هيثم مناع أو قدري جميل أو غيرهم من الحاضرين في جنيف.
من الممكن كما يقول الروس، أن تتم المفاوضات “بمن حضر”، أي دون الهيئة العليا للتفاوض، لكن ذلك لن يعطي أي شرعية دولية للقصف الروسي والإيراني والأسدي ضد المعارضة، وهو ما يعني أن دولاً مثل تركيا أو السعودية أو غيرها، لن تتوقف عن دعم المعارضة بكل الوسائل، كما أن ذلك قد يلم الشمل بين كل الفصائل المعارضة بالإضافة طبعاً لجبهة النصرة، وهذا بالضبط ما لا تريده أمريكا؛ وطبعاً روسيا من الخلف، ولذلك نراهم يؤكدون مع ديمستورا بطريقة غارقة في الاحتيال الوضيع، أن المفاوضات هي “فرصة” لابد للمعارضة من “انتهازها” والتعبير عن مطالبها أمام الجميع.
لذلك كله على المعارضة أن تتنبه، إلى أن مشروعية مطالبها التي يدعمها الرأي العام السوري المعارض اليوم، والتي عبر بيان صادر عن أكثر من مائة وخمسين مؤسسة مدنية معارضة وآلاف النشطاء والكتاب والمثقفين وغيرهم من الأفراد عن التحامهم بها قبل البدء بالمفاوضات، تلك الشرعية والمشروعية لا تقف على المحكّ بالنسبة للداخل والخارج فحسب، بل إن التنازل عن شروطها التي هي مُتضمَنة في قرار مجلس الأمن الأخير والقرارات السابقة، يعد سماحاً للدول الحليفة بالتخلي عن التزاماتها التي لا تتعلق بها أصلاً من أجل “سواد عيون” الشعب السوري، وتفويضاً للمجتمع الدولي بالحرب الكونية ضد السوريين، وتفريطاً بالقضية السورية وبآلام الملايين، دون أمل في استعادة أي حق مهما كان صغيراً من نظام الأسد وحلفائه، وتحويلاً لنصف الشعب السوري إلى إرهابيين موصوفين سيتوجهون طوعاً وكرهاً إلى أمثال البغدادي بحثاً عن عدالة سماوية لا تمنحها الأرض المقفرة للحل السياسي على الطريقة الروسية المنشودة.
ماهر مسعود، كاتب وباحث سوري، ماجستير في الفلسفة الغربية.