قامت روسيا وبخطوة مفاجئة نسبياً بتسليم مشروع دستور سوري جديد للوفود التي اجتمعت في أستانة. ومع أن الحديث عن وجود هذا المشروع للدستور كان متداولاً منذ فترة طويلة، إلا أن خروجه بشكل رسمي للعلن وتداول كل محتوياته أطلق عاصفة من الاحتجاجات والنقاشات حول الدستور ومن يضعه ومشروعيته.. وأثارت جملة من الاتهامات والجدل حول المسائل الإشكالية في المواد الدستورية؛ وهي هوية الدولة ودينها والإدارات المحلية ودورها.. واشتعلت حرب حقيقية بين مكونات المجتمع السوري حول هذه المفاهيم، في ظلّ احتقان وجد خلال الست سنوات التي مضت وقام النظام وحلفاؤه بتغذيته بالعنف الهائل الذي شهده المجتمع السوري، لوضع الجميع تحت ضغط هذا العنف وردات الفعل.
وانقسمت المجموعات السورية (التي لم تكن متحدة أساساً) مجدداً حول المفاهيم الأساسية التي أطلقها مشروع الدستور، وهذا بالضبط ما كان هدف إطلاق مثل هذا المشروع من قبل روسيا..
فإطلاق نقاش حول مفاهيم الدولة الأساسية بهذا الوقت، وتحت كل هذا الاحتقان والعنف، وتسليمه ليد زعماء مجموعات مسلحة لم يكن لديهم سابقاً أي فكرة أو رؤية أو حتى ثقافة قانونية بسيطة، هدفه تماماً إشعال حرب جديدة بين مكونات المجتمع السوري، لصرف النظر عن الحرب الأساسية، وخلق مجرمين وجرائم أخرى لإبعاد التفكير عن المجرمين الأساسيين والجرائم الكبرى.
بغض النظر عن مواد مشروع الدستور الروسي وكيفية مقاربته للوضع السوري بما يحقق مصالح روسيا وحلفائها، وبغض النظر عن من يمكن أن يصيغ مواد دستور سوريا الجديد؛ فالثقافة الحقوقية هي ثقافة عالمية أساساً، ويتوجب علينا الاستفادة من التجارب العالمية حتماً عند إنجاز أي جديد، ليكون بالصياغة الأمثل والأفضل لمستقبل سوريا، وبغض النظر أن هناك اختلافاً كبيراً في رؤية السوريين لمشروع دستور يحكم مستقبلهم، وحتماً سيكون هناك صراع بين كل التيارات والاتجاهات السياسية والقومية والدينية حول كيفية رسم العلاقة بينهم في مستقبل سوريا.
بغض النظر عن كل ذلك، فإن إطلاق مشروع دستور من قبل روسيا الآن هدفه إحداث فتنة حقيقية بين مكونات الشعب السوري واستثمار كل هذا الاحتقان والغضب واليأس لدى الشعب السوري لحرف الثورة السورية عن هدفها، وتغيير فحوى الصراع وأطرافه، وتغيير مواقع الأطراف لتنتقل روسيا إلى حكم بينما هي خصم، وتنتقل إلى موقع الحياد بعد كل الإجرام والجرائم التي ارتكبتها في سوريا.
صراعنا الآن ليس على كيفية رسم مستقبل سوريا؛ فالشعب السوري مرّ بمراحل كثيرة كان هناك صراع كبير على رسم هوية ومستقبل الدولة السورية، وأنجز عدداً يتجاوز الخمسة دساتير في ظلّ وجود نفس مكونات الشعب السوري وتشكيلاته السياسية والدينية والقومية الموجودة حالياً، وتجاوز خلافاته وأنجز دساتير كانت قدوة في كل المنطقة، ولم تحصل حروب بين هذه المكونات، ولم يُمحَ أو يباد أي مكون من مكونات الشعب الذي مازال موجوداً. لذلك لا خوف على الشعب السوري أن يتجاوز خلافاته وينجز مستقبلاً دستوراً مميزاً، يحفظ حقوق كل مواطني دولته دون أي تمييز.
صراعنا بدأ وما زال مستمراً مع الاستبداد والديكتاتورية. صراعنا كان وما زال مع مجرمي الحرب والمجرمين ضدّ الإنسانية. صراعنا مع دول احتلال تتمدد وتتمدد، وتنشئ مناطق سيطرة ونفوذ على حساب سوريا والشعب السوري. بوصلتنا هي الحرية والكرامة والوطن لكل مواطنيه مهما اختلفت قوميتهم أو دينهم أو طائفتهم أو جنسهم، وهذا لن يكون بوجود الديكتاتورية أو الاحتلال، ولن يتم بمشاركة مجرمي الحرب الذين ارتكبوا أفظع الجرائم بحق سوريا والسوريين؛ فهؤلاء لا وجود لهم في مستقبل سوريا حتماً وهؤلاء المجرمون هم الطائفة الوحيدة التي تستحق أن تُمحى ويتم استئصالها من مستقبل سوريا.
إن اللعبة الروسية بإطلاق مشروع دستور لتغيير جوهر الصراع لا يجب أن تنطلي علينا، وأن نسارع للركض للملعب الروسي لمناقشة ما يطرحونه، ونلعب لعبتهم التي وضعوا شروطها وقواعدها وأحكموا الحصار على اللاعبين.
إن الدساتير، وإن كانت نخبة قانونية تمثل كل مكونات الشعب تضعها ولا يعيبها أن تستفيد من كل التجارب، ولكنها لا تمر إلا عبر استفتاء شعبي يوافق فيه الشعب على مستقبله، وهذا لا يتم إلا في زمن السلم والأمان والاطمئنان، وفي ظل وجود قوى وأحزاب سياسية وفكرية، وليس بزعماء ميليشيات مسلحة! ولا يمكن أن يتم تحت ظل السلاح ودوي البراميل المتفجرة، ولا الطائرات القاذفة ولا الانتحاريين، ولا بظل دول احتلال ومناطق نفوذ.. ولا يمكن أن يطرح على شعب أكثر من نصفه نازح أو لاجئ، وثلاثة أرباعه تحت خط الفقر، وبلد أكثر من ثلثه مدمر تماماً، وأكثر من خمسمئة ألف ضحية، ومليوني مصاب، وربعه دون أي سكن، ونصف أطفاله دون تعليم، والأهم مازال المجرمون الذين قاموا بكل ذلك يطرحون بكل صفاقة مشروع دستور للنقاش!
هل هناك مهزلة أكثر من ذلك؟!
رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، محرر قسم حقوق الإنسان والمجتمع المدني في مجلة طلعنا عالحرية