يختلف اللجوءُ من الوطنِ عن اللجوءِ إليه. وكذلك يختلف واقع الوطن عن تصوراتِنا عنه. ويطرح هذا الاختلاف مفارقة صادمة للوعي العامّ، تتمثّل سوريّاً في العلاقة المقلوبة التي صارت بين اللجوء وبين الوطن، وبين واقع الوطن وبين تصوراتنا عنه. فبدل أنْ نلجأ إلى الوطن صرنا نلجأ منه. وبدل أنْ تكون علاقتنا بالوطن علاقة احتواء، كالرحم الذي يحتوينا، بات الوطن علاقة فاعلية.
كان اللجوء إلى الوطن أمراً مألوفاً لأننا نسكن إليه حتى لو لم نكنْ نسكن فيه، أما اللجوء من الوطن فيخالف تعاليمنا الثقافية والحضارية التي تصّور الوطن جنّة ورحماً. فلماذا نلجأ من الجنّة والرحم؟! لأنَّ الوطن تحوّل جحيماً ببساطة ولم يكن يوماً جنّةً أو رحماً. ورغم تصور الوطن كجنّة ورحم واعتباره أغلى شيء عند البشر، إلا أن البشر ترحل عنه وتغادره وتلجأ منه. وهنا تكمن مفارقة اللجوء من الوطن؛ إنها بين واقع الوطن وبين تصوراتنا عنه. وقد أوهمتنا تصوراتنا أنًّ الله ضامن لحياتنا ووطننا ومستقبلنا! كما توهم “ديكارت” يوماً أنَّ الله ضامن لعملية شكِّه المنهجي!
فلطالما ارتبطت مفردتا اللجوء والوطن بعلاقة تناقض فيما بينهما؛ بحيث إذا حضرت إحداهما غابت الأخرى. واستقرّ هذا الارتباط إيجابياً في وعي عامّة البشر؛ لأنه ثمة علاقات قرابة وجوار وتشابه على الصعيد النفسيّ بين مفهوم الوطن وبين مفهوميّ الجنَة والرحم. وذلك لِما يفُترض أن تحققه مثل هذه المفاهيم، في اللاشعورين “المعرفيّ والجمعيّ”، من سكينةٍ وملاذٍ آمنٍ للإنسان.
فمن المفترض أنْ يلجأ الإنسان إلى وطنه لا أنْ يلجأ منه! وأنْ يحاول العودة إلى الوطن-الرحم والبقاء فيه لا أنْ يهرب منه! وأنْ يطلب الوطن-الجنَة التي غادرها مكرهاً لا أنْ يفرّ منها! ولكننا أصبحنا إزاء علاقة مقلوبة؛ فقد انعكست العلاقة بين اللجوء والوطن وتحولت لمعنى سلبيّ، فبات اللجوء من وطنّا السّوريّ، لا السكون إليه، ناظماً لعلاقتنا بالحياة وموجهاً لها. كيف لا؟! وحياتنا باتت لجوء وبات موتنا خلاص!
أصبح الوطن جحيماً يحرق أبنائه كالرحم الذي يخنق جنينه والجنّة التي رمت أصحابها. ففي وطن كالوطن السّوريّ: مجازر متعدِّدة وقتل يوميّ وموت من الجوع وتدمير وسجن وتعذيب وخطف. وفيه أيضاً انعدام سبل العيش الكريم وغير الكريم. ناهيك عن ظهور مافيات وعصابات ومؤسّسات للتجارة بقضيتنا وأحلامنا ومستقبلنا وماضينا، وجثثنا وأعضائنا وإغاثتنا ولجوئنا. في ظل غياب المسؤولية والمحاسبة والعدالة.
والسؤال الذي يطرح نفسه بشدّة هو لماذا انقلب الوطن إلى منفى؟ لأننا ارتكبنا “الخطيئة الأولى” وهي المطالبة بحريتنا! فكما أخرج الله آدم وحواء من الجنّة عقاباَ لهما على “خطيئة المعرفة”، أخرجنا “الحاكم-الإله” من وطنّا لعقابنا على “خطيئة الحريّة”. وإذا كانت عقوبة آدم وحواء العودة للطبيعة بالعمل والألم فإن عقوبتنا العودة لدورة الطبيعة كسماد لها ومواد عضويّة.
وهكذا، تتعادل جرائمٌ ثلاث نفسياً في اقتضاء الشعور بالذنب وتصعيد حلم العودة. “جريمة المعرفة” في الجنّة و”جريمة الولادة” من الرحم و”جريمة اللجوء” من الوطن. فكل جريمة من هذه الجرائم تقتضي أنْ يشعر الإنسان بالذنب، وأنْ يكفِّر عن هذا الذنب بالتصعيد النفسيّ إما من خلال العودة للجنة أو للرحم أو للوطن وكأنهم واحد، أو بناء وطن على نموذجهم.
في الجنّة، كان الإنسان مندغم بالطبيعة مثله كمثل أي شيء في الطبيعة، وعندما أكل التفاحة رمز المعرفة انفصل عن الطبيعة، وعرف نفسه متمايزاً عنها. فجاءت العقوبة على هذا التمرد بالعودة للطبيعة من خلال العمل والألم. وتعمّق في وعينا إما هاجس العودة للطبيعة-الجنّة التي غادرناها في الماضي مكرهين، ولكن بدون ألم وعمل، وإما طلب الجنّة في المستقبل لأنها تُمثِّل السكينة واللذّة الأبدية. أما في الرحم، فكان الجنين هانئاً محمياً يأخذ طعامه إن لزم الأمر من نقي عظم أمه ولا يهتم إلا بالليبيدو (اللذّة)، فأتت الولادة طبيعياً وأخرجته من سكينته وملاذه وقطعت عليه لذّته، فصعّد حلم العودة إلى هذا الرحم وتصوره نموذجاً يقيم عليه وطنه.
نموذجان يقودان تصورات الوطن هما النموذج الديني في قصة الخلق التوراتية، والنموذج البيولوجي في عملية الولادة من الرحم. ويساند هذان النموذجان النموذج الجغرافي لتعميق الوعي بالوطن-المكان، ومن ثم التصعيد تجاهه بعد كثير من مشاعر الندم والشعور بالذنب على اللجوء منه.
يسترشد وعينا الحالي بالنموذجين، وكذلك يفعل وعينا البديل. الأول يحافظ على الوطن لأنه جنّة والثاني يقلب وطنه إلى مكان أخر يعتبره جنّة. ومن هنا علينا بناء وطن حسب نماذجنا وفاعليتنا وليس حسب هذه النماذج البالية. وهنا تقع عملية تفكيك العلاقات الكامنة والسائدة وإعادة بناءها إنسانياً.
الوطن السوري ليس جنة ولا رحماً وكذلك الوطن الألماني ولا الوطن المُراد بنائه أيضاً. يجب التعلم من الجغرافيا أنَّ الأرض كرويّة وأنَّ كل نقطة في الكرة الأرضية هي كما النقاط الأخرى لا تفاضل بينهم. ويجب التصدي لمحاربة اللجوء أخلاقياً من خلال تصورات للوطن عفى عليها الزمن؛ لأنها غير مرتبطة بحقوق الإنسان وكرامته وإطلاق فاعليته. بل مرتبطة بالصبر والتأقلم والشفقة والتطنيش…
وكما يرتبط اللجوء بالخوف والألم والقرف والخجل كذلك يرتبط بالتصورات الأخلاقية والجمالية. واللجوء مرهون بعدة عوامل ومنها عامل الوعي في المقام الأول. فبدون وعي تصوراتنا ووعي علاقتها بالوطن يتأبد اللجوء ويتأبد الوطن ويخرجا من التاريخانية المرتبطة بالزمان والمكان وفاعلية البشر.
علينا إذن خلخلة “اليقين” الذي يجعلنا نقبل الوطن على علاته وعلاقاته. وإظهار أنًّ هذا اليقين ليس بدهيّ ولا أبديّ، بل هو دوماً نتيجة بناء يتعين علينا معرفة قواعده وعلاقاته التي يمكن بموجبها قبول بعضها والتنبيه على البعض الآخر منها. أي بعبارة واحدة، علينا تبديد الألفة الظاهرية لارتجاجية مفهوم الوطن. ونقد تصور الوطن بوصفه جنّة أو رحماً لبناء وطن وفق معايير فاعليتنا.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.