سألتني إحدى الزميلات ممن يعملنَ في المجال الصحفي قبل مدّة عن سبب معارضتي لآلية حملة #إحكيها_صح المثيرة للجدل، والتي أطلقها عدد من نشطاء الثورة السورية، ودعوا فيها إلى استخدام مصطلحات معينة عوضاً عن مصطلحات أخرى “أقل ثورية” من غيرها، حيث تبيّن لاحقاً بأنّ الحملة السورية كانت محاكاة لحملة أخرى شبيهة أطلقها نشطاء فلسطينيون، حاولوا من خلالها استبدال العديد من المصطلحات الدارجة – والتي لا تعبّر تماماً عن قضيتهم بحسب رأيهم – بمصطلحات أقرب إلى المبادئ والأهداف التي يؤمنون بها.
ولعلّ الملفت في الحملتين هو جنوح الحملة الأصلية إلى مصطلحات أكثر توافقية إلى حدٍ ما، عكسَ ما استخدمه النشطاء السوريون في حملتهم، والتي كانت أقرب إلى حملة تصفية حسابات ومصادرة الآراء المختلفة عنها، وكان مؤسفاً أن تترافق الكثير من منشورات الحملة مع سيل هائل من الشتائم والاتهامات لكل من لا يتبنّى مصطلحات الحملة، والتي تحمل معاني مختلفة في سياقات مختلفة وحسب اعتبارات عديدة.
في أحايين كثيرة تكون المقدمات المشبعة بلغة الاتهامات المبنية على قضية خلافية، هي البداية الحقيقية لحملات تشهير مسعورة، قد تطال أشخاصاً أو فعاليات أو مجموعات عمل أو منظمات أو غيرها من الأجسام الثورية، وتنال هذه المقدمات عادة من قضايا إشكالية تحمل أوجه كثيرة ومختلفة فيما بينها.
ورغم أنّ العديد من الجهات والأشخاص يتمتعون بمهارات لطيفة في إدارة الخلافات بحكم عشرات الورشات التدريبية التي أقيمت للسوريين منذ بداية الثورة، إلاّ أنّ الغالبية العظمى تنهج وبكل أسف النهج الأسرع والأبشع في التعبير عن وجهة نظر أخرى، قد لا تكون مختلفة كلياً عن الرؤية الأساسية.
خلال دراستي المرحلة الابتدائية في إحدى المدارس على ضفاف مدينة القامشلي/قامشلو الواقعة على الحدود السورية – التركية، وقعت حادثة سرقة في شعبتنا المدرسية، للوهلة الأولى ظنّ العديد من التلاميذ –وكنت أحدهم- أنّ الأستاذة سوف تلجأ إلى الأسلوب المعتاد المتبع في المدرسة من قبل معظم المدرّسين، والذي كان قائماً على تفتيش جميع الطلاب بشكل كامل بمساعدة “عريف الصف”، وعند العثور على الشيء المفقود لدى أحد التلاميذ كان يتمّ توبيخه بطريقة تهدف بشكل واضح إلى محاولة تدميره نفسياً، يرافقه في الأغلب ضرب مبرح وعار يرافق التلميذ حتى أشهر عديدة. لكننا تفاجئنا بالأسلوب الذي اتبعته الأستاذة في ذلك اليوم عند التعاطي مع ذلك الأمر الطارئ على الصف، أمّا الخطوة الأولى فتمثلت بقيام الآنسة بإعطاء “فسحة للعودة عن الخطأ” عندما طلبت بكل لباقة منّا إعادة القلم الذي يمكن أن نكون قد عثرنا عليه بمحض الصدفة أو نكون قد تلقفناه بالخطأ عن الأرض، والبدء بالدرس المقرر، وذلك أملاً بعودة القلم إلى صاحبه الأصلي. ولكن لم يحدث ذلك، ومرّت الطريقة الأولى من دون جدوى أو فاعلية، إلاّ أنّ الأستاذة أعقبت تلك الخطوة بأخرى طريفة وكان مفادها “أن يقوم الذي عثر على القلم بالاجتماع مع الأستاذة في أي مكان وزمان وإعطائها القلم مع مكافأة رمزية بسيطة من قبل الآنسة”… لحسن الحظ وتحديداً في تلك الأيام كنّا جميعاً منهكين بالواجبات اليومية و”المذاكرات” ولم يكن هنالك بيننا أي تلميذ فضولي في الصف كان يمكن أن يقرر ملاحقة الآنسة خطوة بخطوة حتى يتعرّف على ذلك الشخص.
يمكن الحديث، وبدون مبالغة، عن عشرات الأساليب البنّاءة والطرق التي يمكن اتباعها من قبل الأشخاص الذين يملكون حسن النية في تغيير أو انتقاد أو توجيه ملاحظة إلى أي شخص أو فعالية حول أي موضوع إشكالي أو خلافي دون اللجوء إلى الأساليب الشائعة حالياً في الأوساط الثورية السورية، والتي تقوم بشكل أساسي على عملية تشهير (تكون منظمة في معظم الأحيان) وذلك رغبة في التعبير عن الاختلاف في وجهات نظر معينة، وخاصة تلك المتعلقة باستعمال مصطلحات ذات دلالات مختلفة بحسب السياق الذي يتمّ طرحها فيه، وليست أول هذه الأساليب هي المنشورات على وسائل التواصل الإجتماعي أو ضمن الإجتماعات الخاصة المغلقة، أو خلال المؤتمرات، أو حتى على شاكلة رسائل للحكومات والممولين.
ولو نظرنا إلى العديد من حملات التشهير التي درجت وما تزال، وخاصة تلك التي تدور في فلك أمور غير متفق عليها بشكل نهائي، فسوف نلاحظ إشارات ورسائل بُنيت وانطلقت على سبب جوهري ومبدأ أساسي وهو “لماذا لا تشبهنا أو لا تكون مثلنا أو من جماعتنا”. وكأننا بتنا نتعامل مع أوصياء على مناطق أو محافظات بعينها، أو على أوصياء على ثورة شعب خرج لنيل كرامته وحريّته، ولإحداث تغيير حقيقي في بنية الدولة والمجتمع، ويبدو واضحاً من خلال متابعة متأنية ودقيقة لهذه الأساليب في التعبير أنها أكثر تجسيداً ومحاكاة لسياسة الإقصاء والتخوين والتهميش التي اتبعها حزب البعث العربي الإشتراكي تجاه المواطنين السوريين خلال العقود المنصرمة، والتي أدت في النهائية إلى ثورة شعبية سحقت تلك الأساليب والأفكار البالية.
المتحدث الإعلامي باسم مركز توثيق الانتهاكات في سوريا