يكمن اللا مقروء أو المسكوت عنه في الاتفاق الأمريكيّ- الروسيّ في عدم تطابق الأهداف المرجوة مع النتائج المتحققة. فالفجوة السحيقة بين أهداف الاتفاق وبين النتائج التي وقعت بالفعل، تزعزع الآمال المعقودة على دورهما في العمليّة السياسيّة من جهة أولى، وتطرح علينا السؤال التالي من جهة ثانية: هل يستطيع فعلاً الأمريكيون والروس إحرازَ تقدمٍ في العمليّة السياسيّة وتمديدَ الهدنة وتعميمها ووقفَ القتل والتهجير واللجوء وتقديمَ المساعدات الإنسانيّة؟ أم أنهما عاجزتان عن فعل ذلك؟!
والجواب الدارج والسائد هو أنهما تستطيعان ولكنهما لا تريدان الحلَّ لغايات خفيّة. ويستند مثل هذه الجواب إلى قياسٍ على ما مضى من ثنائية القطبيّة في عالم الحرب الباردة؛ أيام كان الأمريكيون والروس يتصرفون كأسياد للعالم وبقية الدول تخضع لإرادتهما. ولكن عالم ما بعد الحرب الباردة يختلف جذرياً عن عالم ما قبلها؛ فتعدد الأقطاب يجعل العالمَ معدومَ القطبيّة ولا كبير فيه أولاً، والتدخل والتداخل والتشابك يُعقِّد القضية السوريّة أكثر فأكثر ويجعلها لعبة دوليّة ثانياً، والتناظر بين القوى الكبيرة وبين القوى الصغيرة يجعل من الجميع لاعبين أساسيّين ثالثاً، ناهيك عن واقع النظام السوريّ بوصفه “نظاماً سياسياً مخترقاً” حسب توصيف “خلدون النقيب” رابعاً. فمن اجتماع هذه العلاقات هنا يبدو عجز هاتين الدولتين أكبر من قدرتهما، وهذا ما تثبته الوقائع شيئاً فشيئاً.
إذاً، المقروءُ في اتفاق مسخ القطبين، وهمٌ سائدٌ مفاده أنَّ جميع أوراق الحلّ السياسيّ لثورة الحريّة والكرامة السوريّة، بأياديهما! ولكن غير المقروء هو أنَّ العالمَ تحوّل إلى انعدامٍ للقطبيّة لا تصح معه هذه القراءة بالمرة. وتكفي الوقائع الأخيرة لنقض هذا الوهم؛ تلك الوقائع المتمثلة بقصف ناقلات الإغاثة في حلب وانهيار الهدنة المتفق عليها وقصف موقع للنظام في دير الزور.. فالأقطاب باتت كثيرة تفوق احتمال ما يسمى تندراً بالقوى الكبرى. وبات فعلهما هدَّاماً لا بَنَّاءً. والاختراق أصبح شخصياً لا سياسياً فحسب.
وهكذا، نفهم تحوّل الجماعات الوطنيّة الموالية والمعارضة إلى نتفٍ تتبناها الدول والسفارات وتتلاعب بها. ونفهم غياب المعقوليّة السياسيّة في حساب المصالح؛ لأن النظام السياسيّ المخترق يكون مرتعاً للتنافس يصعب معه حساب تكلفة التدخل وتقدير فوائده. ونادراً ما يستطيع لاعب واحد أو أكثر من فرض إرادته على اللاعبين الآخرين. وهذه حالة تستوعب أي عدد من اللاعبين الداخليين والخارجيين، وتكون عندها المبادرات السياسية كردة فعل على التوجهات الدوليّة. ولا يُلحِقها النظام العالمي فيه، ولا يتركها تفلت من قبضته في آنٍ.
ويعيش النظام السياسيّ المخترق مجابهة داخلية يوميّة شرسة ومستمرة. ولا يُفهم وضعنا الراهن إلا بسياق النظام العالمي وتأثيرات ما بعد الحداثة. ويُتَّبع في مثل حالتنا سياسة فرض الواقع بخطفة سريعة أو بتثاقلٍ تدريجيّ ويرفض التفاوض؛ لأن الصراعَ لا يتجزأ إلى أصل وفروع ويبقى مبدئياً، مما يخلق انسداداً في الأفق. وفي حال الدخول في المفاوضات، يجب أنْ تكون عبر وسيط يضمن الاتفاقات، ويتم التركيز على النتيجة الصفريّة بمعنى مكسب لاعب هو خسارة لاعب آخر. ويدور الصراع حول شخصية الرئيس وتسييس مسألة الأقليّات وتوظيفها.
يتكئ الخطاب السائد على أطروحات ثلاث هي بمثابة عكازات تساعده في المضي قدماً وهي:
أطروحة إسقاط الرئيس، وأطروحة التدخل، وأطروحة الطائفيّة. والسؤال المطروح هنا هو لماذا تتشابه الأوضاع في سوريّة والعراق واليمن بالرغم من اختلاف التدخل واختلاف مصير الرئيس واختلاف الطائفيّة؟ فالتدخل الدوليّ في العراق تحوّل لاحتلالٍ؛ فحلّ الجيش العراقي، واجتث حزب البعث الحاكم قائد الدولة والمجتمع، وعيّن “بريمر” حاكماً عسكرياً، ثم تم القبض على “صدام” ومحاكمته وإعدامه. بينما في ليبيا كان تدخلاً عسكرياً بدون احتلال، وقُتل “القذافي” بيد ليبية بدون محاكمة. أما اليمن فاستقال الرئيس بعد محاولةٍ لقتله، وبعدها تحولّت اليمن لساحة صراع إقليميّة. أما في سورية فالتدخل العسكريّ المباشر كان لصالح النظام، وما زال الرئيس يحكم، ولكن رغم هذا، تتشابه الأوضاع لدرجة التماثل. ولنلاحظ أن ليبيا ليس فيها طائفية؛ لأنهم من طائفة واحدة، بينما اليمن فيه طائفتين تتصارعان، أما العراق ففيه تعدد طائفي وقومي وديني كما سوريّة، وتبقى تهمة الطائفيّة وصفةً لا علاقة لها بالنتائج كما يعتقد البعض. والأسباب هنا كما الحلول هي في محل آخر.
يجب أن لا نتوقع من الآخرين الدوليين مساعدتنا لأننا طيبون أو لأننا مسالمون! بل يجب أنْ نتوقع الانقضاض علينا لتفسخنا. فلنوقِف إذاً الخطاب المتهافت الذي أضاع التضحيات والجهود السوريّة سدىً. فكلّ فعلٍ وجهد وعمل بحاجة إلى نظرية وخطاب واقعي يوصِّف الواقع كما هو لا كما نريد.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.