حسين الضاهر
قد تعتبر القراءة؛ وقودًا مثاليًا لدفع عجلة الكتابة، وخزانًا معرفيًا لا يمكن الاستمرار من دونه، وقد توجد مؤثرات ومحفزات كثيرة تساهم في تفريغ الكاتب لشحناته الإبداعية، وبالتأكيد تعد البيئة والاحتكاك جزءًا لا يمكن التغاضي عنه هنا؛ فالكاتب ابن بيئته، ومهما حاول اجتياز الواقع والقفز عليه، بالتحليق في فضاءات الخيال، لا بد أن تظهر انعكاسات واقعه المعاش بين مفرداته.
وعليه فإن المكان أو البيئة هي إحدى العوامل الرئيسة في عملية الكتابة، وقد توازي أهميتها أهمية القراءة. فإن جئنا مثلًا إلى عوالم الرواية أو القصة، سنجد أن المكان والزمان هما الركيزتان الأساسيتان والتي يتمحور حولهما السرد دائمًا. وكما تفرض القراءة سطوتها على النص المكتوب، يفرض المكان حضورًا قد يغير أدوات وحتى لغة الكاتب، وذلك من خلال الشحنات التي يُكسبها المكان للنفس البشرية.
وهنا مثلًا نستطيع الاستشهاد بأدب السجون؛ حيث تدور الكتابة فيه ضمن أربعة جدران، ومهما حاول الأديب السجين تجاوز محنته، لا بد أن تظهر ارتدادات المكان في سطوره. وحتى إن عبرنا هذا الشاهد وتوقفنا عند إنسان “كاتب” حر طليق، سنلمس على الأقل حضور المكان أو البيئة في كتاباته.
مدن الشحن:
ونستطيع إطلاق صفة “مدن الشحن” على تلك الأماكن التي يكتسب فيها الكاتب احتكاكًا وتجاربًا جديدة تنمّي لديه عاطفة ما أو تجربة جديدة. وقد تحمل هذه المدن أو الأماكن صفات؛ إيقاع الحياة السريع والمتواصل، والتي تكتظ بالوجوه والأصوات، تلك المدن بفنّ عمارتها ومعالمها الأثرية، وحتى بأزقتها وشوارعها الخلفية، بزحامها وهدوء بعض أركانها. كل هذا، يغذّي مخزون الكاتب ويُعتبر مصدراً يستمدّ منه الحيوية، ويستقي منه الصور والأحداث التي قد تبدو للقارئ في بعض الأحيان خيالية ومستحيلة الحدوث، لكن من يتمعّن جيداً في تفاصيل الحياة من حوله، يجد أنّ الحكايات التي تحدث خلال مسيرة اليوم قد تكون غرائبية ولا منطقية لدرجةٍ تتخطّى العقلية الإبداعية بمسافة كبيرة. لكنها في النهاية حقيقية.
ومن ناحية أخرى قد تكون الأرياف أو الأماكن الهادئة، هي بيئة جيدة لبعض الكتّاب والمبدعين، لاكتساب حالة تراكمية إبداعية، وهنا يستقي الكاتب شحناته من التأمل والسكينة والطبيعة المحيطة، وقد ظهرت تأثيرات البيئة والطبيعة في نتاجات إبداعية كثيرة، وعلى سبيل المثال؛ شعراء وأدباء الأندلس؛ حيث برزت انعكاسات الطبيعة الجميلة في نتاجهم الأدبي، بأجمل الصور.
مدن الحرب والكوارث:
وكما تحمل المدن التي تشهد معاناة معينة، كالحروب والكوارث، طابعًا تراكميًا، فكثير من الإبداع يأتي إثر معاناة أو معها. فتحرك الراكد داخل الكاتب، وتثير لديه نواح وجدانية، إنسانية، أو حتى عنيفة أحيانًا.
ومن المؤكد بأن الثورة السورية، ومن بعدها الحرب التي شنها النظام والقوى العسكرية على الأرض السورية، هي حافز شهدت بعده الحركة الأدبية السورية نقلة نوعية، فباتت نتاجات هذه الثورة لا تحصى ولا تعد، في مجالات الرواية والشعر والمقال وغيرها من الفنون الأدبية. وقد احتاجت هذه التجارب للظهور مدة أو حالة انتقالية لتستطيع معها تفريغ نتاجها المكتسب من تجربة الحرب. وهنا يبرز دور مدن اللجوء أيضًا، بالإضافة إلى حالة اللجوء بشكل عام، كالدروب التي سلكها السوري للوصول إلى النجاة.
وفي هذا الشأن أيضًا، طفت على السطح تجارب عدة، تناولت موضوعات اللجوء والمدن الجديدة، كمادة لكتاباتهم. وفي حين تعد هذه التجارب “الخروج من الوطن، حالة اللجوء” مواضيع وجدانية إنسانية، إلا أن تناولها لا بد أن يبدأ من المكان، إن كان المكان الذي تُرك، ومكان الوجهة أو الوصول. فالمكان هنا يعتبر الركيزة الأساس والمحور الرئيسي في العملية الكتابية.
مدن التفريغ:
وتأخذ هذه الأماكن صفة الاستقرار النسبي، وشبه الديمومة. يكتسب منها الكاتب الشعور ولو جزئيًا بالاستقرار، فيقوم بتفريغ شحناته الشعورية، بعد التماسه حالة الاستقرار التي يُكسبها له المكان. وقد تستثنى من هذه الأماكن؛ السجون وحالات الاحتجاز القسري، وعلى الرغم من ذلك فهي تعد أماكن شحن وتفريغ في الوقت ذاته، يكتسب فيها الكاتب معاناة توقد قريحته، وتمنحه أيضًا شعورًا بالمكان المُحتجز فيه. فيعمل ضمن الحالتين في آن واحد.
وتتصف الأماكن التي يستطيع الكاتب الإنجاز فيها “مدن التفريغ” بحالة من الهدوء، يقتات الكاتب فيها على ما اكتسبه من معارف وقراءات، ومشاهدات، وحتى حالات الإثارة الوجدانية والعاطفية السابقة. ومن الطبيعي أن مخزون كل كاتب سينضب يومًا طالما أنه لم يخض غمار تجارب وحالات جديدة. وربما سيعيد تكرار نفسه، وبما لديه من مخزون قديم. لذلك لا بد له أن يستلهم تجارب جديدة، من أماكن جديدة، واحتكاك مع شخوص وأحداث.
وفي المحصلة، تأتي بيئة المنشأ، كمكان مؤثر من الدرجة الأولى في مسيرة الكاتب، تصقل شخصه وتجربته، وتبلور أسلوبه، ليأخذ من الذكريات المتراكمة، مادة دسمة ينثرها على موضوعاته، فتبقى طافيةً على سطح مشروعه الأدبي، إلى النهاية. ومهما حاول الكاتب إخفاء هذا التأثر الذي اكتسبه من بيئة المنشأ، باكتساب تراكمات جديدة من أماكن جديدة، لا بد أن تظهر بيئة المنشأ كهوية شخصية دالة على صاحبها.
وأخيرًا، نستطيع إدراج كل ما كُتب تحت بند التجارب الشخصية، ومن المؤكد أنها تختلف من شخص إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى. إلا أن الشيء الثابت من كل هذا، هو أن للمكان سطوته على العملية الكتابية، سطوة لا يمكن تجاوزها أو التغاضي عنها مهما حاول الكاتب الخروج منها والتعاطي مع مخياله الإبداعي.
مجلة مستقلة، تعنى بشؤون الثورة السورية، نصف شهرية، تطبع وتوزع داخل سوريا وفي عدد من مخيمات اللجوء والتجمعات السورية في الخارج