لاستراتيجيّة الفوضى في المنطقة العربيّة تأثيرات كبيرة على المجتمع والدولة. وبغض النظر إنْ كانت هذه الفوضى “خلّاقة” أم “هدّامة” فإنها طالت المجتمع العراقيّ والليبيّ والسوريّ واليمنيّ، كما طالت دول هذه المجتمعات، ونمّت دورها في تفريخ الإرهاب وجذبه.
إنَّها تطال المجتمع فيتحوّل إلى حالة مبدّدة بعدما كان حالة هجينة وخليطة من ثلاث حقب؛ ما قبل الحداثة والحداثة وما بعد الحداثة. وتطال الدولة كذلك، فتتحوّل إلى دولة فاشلة بعدما كانت دولة استبداديّة. ومن ثنائي تبدد المجتمع وفشل الدولة، تبرز وتنبثق مظلوميّات ما قبل الحداثة؛ كمظلوميّات السنّة والشيعة والمسيحيّة والكورد والعلويين والحوثيين…الخ. وتنطوي كل مظلوميّة من هذه المظلوميّات على مظلوميّات عديدة كانطواء نبتة الملفوف على أوراقها.
ففي الحين الذي أبرزت فيه العولمة مكونات مجتمعنا ما قبل الحداثيّة، أبرزت الفوضى مظلوميّة هذه المكونات بإهاب إرهابيّ. ورغم أننا عشنا مظلوميّة الشعب الفلسطينيّ كمظلوميّة عالميّة برزت في حقبة الحداثة السابقة على العولمة والفوضى من ناحية منشئها ومن ناحية حلها، إلّا أنَّها ما زالت مستمرة حتى الآن، الشيء الذي يشي بأنَّه لا حلول حداثيّة لمظلوميّة حداثيّة فما بالك بالحلول الحداثيّة لمظلوميّات ما قبل حداثيّة، إنها لاتنفع!
إنَّها خط بيانيّ صاعد باتجاه بدائية المظلوميّات المحليّة ما قبل حداثيّة. ففي حقبة الحداثة كان العرب والمسلمون إزاء مظلوميّة الشعب الفلسطيني، ثم أضيف عليها مظلوميّة الشعب العراقيّ في تسعينيات القرن الماضي، ثم الليبيّ واليمنيّ والسوريّ والعراقيّ في حقبة ما بعد الحداثة خلال السنوات الخمس الماضية. ولكن على يد المستبدين العرب وبطشهم تنحدر المظلوميّة لحالة أكثر محليّة وبدائيّة؛ فيصبح لدينا مظلوميّة سنيّة وشيعيّة وأخرى كرديّة.. وعلى يد الاحتلال تزداد هذه المظلوميّات عمقاً وعدداً. وعلى يد الحشد الشعبي الشيعي والعلويّ و”الحشد الكرديّ” تزداد حدةً حساسية هذه المظلوميّات من بعضها البعض. ومع داعش والنصرة صرنا إزاء مظلوميّة علويّة وإيزيديّة وشيعيّة وإسماعيليّة ودرزيّة… وربما لاحقاً مظلوميّة أوربيّة!
ويعتقد بعض منظري داعش والنصرة أنَّ هذه الفوضى هي فرصة ذهبيّة لإقامة المظلوميّة السنيّة التي يدعّون تمثيلها على حساب المظلوميّات الأخرى، كما اعتقد بعض منظري الخارجيّة الأمريكيّة قبلهم بالفوضى الخلّاقة كاستراتيجيّة لإعادة بناء الشرق الأوسط الكبير؛ أي أنَّ الفوضى هنا تُبرِز المظلوميّة وتساعدها على الانتظام، أو تهدم الأنظمة والمجتمعات لتنتظم من جديد. حتى بتنا أمام علاقة طرديّة مفادها: كلما ازدادت مظلوميّاتنا ازدادت فرصتهم، أو كلما ازدادت مظلوميّاتنا ازدادت مغانمهم!
تقوم هذه المظلوميّات إذاً، في سياق فوضى ما بعد الحداثة. وهي مظلوميّات استبطانيّة وتراكميّة؛ يستبطن فيها أفراد الفئة المظلومة عدم الاعتراف بالهزيمة، ويتراكم فيهم الغلّ والقهر لمعاودة الكرّة عندما تسمح لهم الظروف. وهنا نلاحظ غياب المظلوميّة عند الشعب اليابانيّ أو الألمانيّ أو الإيطاليّ بالرغم من هول ضحايا الحرب العالميّة الثانيّة. بل على العكس من ذلك نلاحظ هزيمة دول المحور والاعتراف بالهزيمة للانطلاق من جديد. وما زال كثيرون عندنا يتباكون على سقوط الخلافة الإسلاميّة عام 1923، وعلى سقوط الحسين أو سقوط الأندلس أو سقوط بغداد…
وفي صراع المظلوميّات يتنامى البعد الأخلاقي المرتبط بثنائية الخير والشّر والحق والباطل؛ فالمظلوم في دائرة الخير والحق، والظالم في دائرة الشّر والباطل. فيتنامى الشعور بالغبن والحقد والثأر، لتقوم المظلوميّة هنا بوظيفتين اثنتين: الأولى شدّ عصب الجماعة المظلومة، والثانية استجداء عطف وشفقة المجتمع الدوليّ.
وبالرغم من أنَّه لا تفاضل بالمظلوميّة نرى التفاضلات على قدم وساق من جميع المظلوميّات؛ بحيث ترى كلّ مظلوميّة نفسها مظلومة أكثر من غيرها، وترى أنَّ من يظلمها هو ظالم أكثر من غيره ضمن اعتبارات التفوق المزعوم الثاوية في المخيال الاجتماعي الخاص بها.
ويتطبّع المظلوم بطبع الظالم على مبدأ تطبّع المغلوب بطبع الغالب حسب ابن خلدون، لتحقيق سيادة مظلوميّته على المظلوميّات الأخرى. وذلك بالرغم من أنَّ ثنائية ظالم/مظلوم ثنائية وجوديّة تعبر عن استمرار الصراع الوجوديّ على مستوى الحياة والموت انطلاقاً من هوية لم يمتلك صاحبها خياراً. ولم ترقَ هذه الثنائيّة الوجوديّة حتى الآن لتكون ثنائية مفهوميّة تأخذ منحى الصراع السياسيّ. والحق يقال: إنَّ المظلوميّة بهذا الشكل وصفة سحريّة للانتحار المجتمعيّ وتشكيل مناطق نفوذ على صعيد الجغرافيا السياسيّة.
والسؤال هنا هو: ما جدوى طرح مشاريع وحلول حداثيّة تنتمي لعصر الحداثة في سياقٍ ما بعد حداثيّ؟ ولا سيّما أنَّ قيم ما قبل الحداثة كالرعويّة والقطيعيّة تتداخل مع قيم الحداثة كالعقلانيّة والمصلحيّة والبيروقراطيّة والمركزيّة، وتتداخل كذلك مع قيم ما بعد الحداثة كالعلاقات الافتراضيّة والفوضى والضياع واللاتفاضل. وهذا ظاهر للعيان في مجتمعاتنا ودولنا.
وهكذا نرى أنَّ الظلم واقعٌ بينما المظلوميّة إيديولوجيا عابرة للزمان والمكان. ففي سياق ما بعد الحداثة تبرز مظلوميّة مكونات الشعب المندرجة في حقبة ما قبل الحداثة وتتراجع مظلوميّة الشعب المندرجة في حقبة الحداثة. والحل يكمن في التعايش بين المظلوميّات وهو ما سنراه على المدى القصير والمتوسط ضمن مناطق نفوذ تكون أقل من تقسيم وأكثر من إدارة ذاتيّة.
شوكت غرز الدين، كاتب سوري، ماجستير في فلسفة العلوم، الايبستمولوجيا.